التدفق الذهني: عندما أصبحت الأفكار تنساب دون هوادة في عقلي


Painting: Resting Beauty, by: Władysław Czachorski



 
 منذ ما يقرب من الشهر كنت منغمسة تمامًا في كتابة مقالة لثمانية، عندما وجدت عقلي فجأة (يلتقط) فكرة جديدة ربما لا علاقة مباشرة  لها بالمقالة التي أقوم بكتابتها، لكنها جاءتني فجأة، في البداية لم أُعر الأمر الاهتمام الكافي، لكن بعد مرور أقل من أسبوع وجدت نفسي قد دونت رؤوس أفكار لأكثر من خمسة عشر موضوع لمقالة، كتبت الفصل الأول من كتابي، سلمت المقالة التي كنت أعمل عليها بالفعل، وانهيت كتابة بحثي وتلخيص البحث الذي كنت بصدد القاؤه في المؤتمر، انشئت متجري الخاص وقمت بالفعل بالاتفاق على الطلبيات، وارسلت ملخص بحث لمؤتمر آخر سيعقد آخر هذا الشهر، بُشرت اليوم بالصدفة أن بحثي فيه مقبول، عقلي لا يهدأ ولا يتوقف عن صناعة والتقاط الأفكار من الأحاديث العادية ومن مواضيع جانبية لموضوع رئيس أعمل عليه، من كلمات الأغاني وألوان أغلفة الكتب؛ أصبح الأمر جنوني حد أنني بدأت أفقد التركيز الحقيقي فيما أفعل، الأفكار كلها رائعة حد أنني دونتها كلها وتكفي لملء فراغ أيامي على مدار عام كامل، كنت سعيدة لكن هذا النشاط العقلي المبالغ به بالفعل أرهقني، ثم احرجني عندما وجدت مديرتي تطلبني بعض التعديلات على فكرة اقترحتها ثم سلمت تقريري/ خطتي عنها منقوصة وغير مترابطة وكأنني كنت أكتفي بالحديث العقلي الداخلي دون تدوين كل شيء، ثم اكتشاف مديرة التحرير لخطأ بدا لي فادحًا في مقالة سلمتها، وهنا شعرت بالخوف من أن أكون مصابة باضطراب ثنائي القطب دون أن أُدرك، حالتي أخافتني جدًا فقررت عدم القيام بأي عمل لمدة أسبوعين ريثما يرتاح هذا العقل ويهدأ.

قرأت في فترة هدوئي عن تلك الحالة لكني لم أعثر على ما يصفها بالتحديد، أقرب وصف لها كانت حالة التدفق العقلي، رغم أنني لم أفقد شعوري فعلًا بالزمن بينما كنت أعمل، لكن انتاجيتي كانت بالفعل مرتفعة بشكل غرائبي، وكانت الأفكار تتدفق وتأتي بأفكار جديدة أخرى فرعية وتتفرع أفكار أخرى من تلك الفرعية، وهكذا إلى ما لا نهاية، لكن ما زالت تلك الحالة التي مررت بها غير مفهومة، كانت أشبه بحالات النشاط العقلي التي تجتاح أصحاب اضطراب ثنائي القطب، لكن دون مشاعر هوسية أو أفكار جريئة، تحدثت مع طبيب مختص في الواقع لأن حالة قلة ساعات نومي وانجازي المفرط وتدفق الأفكار حد عدم قدرتي على السيطرة عليها أخافتني، وأتذكر أنه طمأنني ضاحكًا: تلك حالة قد يدفع فيها البعض (مليون جنيه) لتصيبه ولو ليوم واحد، طمأنني أن ما حدث مجرد نشاط عقلي زائد وهو مؤشر على صحة نفسية تامة لأنني ببساطة بلا مشتتات تتمثل في الاحباط العاطفي أو أي مشاكل نفسية أخرى تعوق تركيزي، والأمر بالفعل لا يتعدى كونه حالة صافية من التدفق العقلي.

 عدت للقراءة عن هذا المصطلح في مقالات انجليزية وأوراق بحثية، في الواقع وجدت الكثير مما يصف حالة التدفق الذهني بدقة أكبر مما وجدته في المحتوى العربي، وتفاجأت عند عودتي للبحث في المحتوى العربي أن مقالة الويكيبيديا العربية كانت دقيقة إلى حدٍ بعيد فيما يتعلق بحالة التدفق العقلي، كباحث تعودت أن لا أثق بويكيبيديا لكن للأبد يمكنني القاء نظرة على المراجع المذكورة في نهاية المقالة لأنها عادة طرف خيط جيد، وجدت فيها عدة خيوط، كان ألطفها فيديو من سلسلة تيد توك يتحدث فيه سيكسزنتميهالي عن حالة التدفق العقلي بمنتهى السلاسة وكيف يمكن ببساطة الوصول إليها واختبارها.

في الواقع تعلمت من تلك الحالة أن أدون كل فكرة ولو كانت تبدو تافهة لأنها حتمًا ستصل بقليل من التمعن لفكرة أرقى، أو أنها ببساطة ستكون رائعة بصورتها الأولى، تدوين الأفكار مهما كانت تبدو بسيطة أو عادية يساعد جدًا على الشعور بالإلهام وحتى أنه قد يدفع العقل بالوقت لحالات التدفق الرائعة تلك، تعلمت أيضًا أن الإدراك الداخلي والوعي الذاتي بما يمر به العقل والذاكرة والجسد أجمل ما قد يحدث للإنسان؛ لأنه في تلك الحالة يلتقط بسهولة كل عرضٍ يعبر به ويحلله ثم يطمئن إليه أو يقرر التصرف بسرعة إن وجد ما يثير القلق.

العقل البشري لا يتوقف عن اثارة دهشتي، ولا عن دفعي لمزيد من الإيمان بالله والتفكر في خلقه، وأننا كبشر بكل هذا التعقيد معجزة تامة تتجدد كل يوم بأنفاس الحياة فينا.


"وفي أنفسكم أفلا تبصرون"

Comments