استدراك



في عامي الجامعي الأخير لم استغرب رسوبي في أربع مواد واضطراري للبقاء والإعادة؛ كنت منشغلة في تحضيرات زواجي، وأثر علي سفر والدتي وفراقها للمرة الأولى، في سنة الإعادة الأولى نجحت في ثلاثة مواد وبقيت لدي مادة (النصوص اللاتينية). في الواقع تلك المادة ابقتني للاعادة عامين آخرين، كنت أدخل اختبارها مرتين: مرة في موعد الاختبارات الأساسية، ثم في اختبارات المواد الصيفية. من 2009 وحتى 2012 كنت عاجزة عن الحصول على ستون درجة كي أتخطى تلك المادة/ اللعنة بنجاح.
قبل اختبارات المواد الصيفية في سنة الإعادة الثالثة قررت والدتي التدخل، وتحدثت مع الدكتور مدرس المادة فطلب منها حضوري لمقابلته في مكتبه بالكلية، أتذكر أنه سألني مباشرة: لماذا لا تأتي المحاضرات؟ ولماذا إن استعصى عليكِ الفهم لا تحاولي الاتصال بي وسؤالي؟ لماذا استسلمتِ تمامًا بتلك الصورة ودرجاتك في السنوات السابقة في معظم المواد بما فيها اللغات لا تدل بأي حال على عقل طالب قليل الذكاء أو مستسلم ومهزوم؟
درسني مشكورًا بدائيات المادة وراجع معي ما أفهمه وشرح لي ما لا أفهمه، بعد ثلاثة أيام كان الاختبار، اجتزت المادة بدرجة 78/100 وانهيت مرحلتي الجامعية أخيرًا بعد تعسرٍ طويل في مادة واحدة.
في عام دراستي للسنة التمهيدية قبل مواد الماجيستير درسني نفس الدكتور اللغة اليونانية، كان الكتاب الذي اعتمده لتدريس اليونانية القديمة معقد وصعب بشهادة متخصصي المادة، وكنت لا أزال أحمل عقدة مادة النصوص اللاتينية، لكني تحاملت على نفسي ونجحت في الفصل الدراسي الأول بدرجات جيدة، في الفصل الدراسي الثاني أصابته كورونا فاعتذر عن المادة، لكني كنت أشعر بالتقدير لهذا الرجل طوال التيرم الثاني وقد تغير الكتاب لكتاب آخر شديد السلاسة بدرجة جعلتني لا أحتاج لدراسة اليونانية أبدًا على مدار الفصل الدراسي الثاني، بل واجتياز اختبارها بمعدل 90/100، أدركت عندها أنه كان يطورنا ويعدنا لخبرة لغوية رائعة بينما كنّا نتذمر من صعوبة التعلم على مدار أربعة أشهر.
في سنة الماجيستير درسني نفس الدكتور التاريخ السياسي لبلاد اليونان في العصر الهلنستي، ظهرت براعتي السردية وربطي للأحداث لكن كان يخونني تذكري للأسماء الكثيرة جدًا، فكنت أقول مثلًا: الملك رقم 3 الذي لا أذكر اسمه وكان هذا يضحكه، تخطيت مادة التاريخ السياسي لبلاد اليونان بمعدل 88/100 وهي أقل درجة حصلت عليها في سنة مواد الماجيستير، كنت الطالبة التي حصلت على المعدل الأعلى في جميع المواد في تلك السنة بين زميلاتي، بعد عام التمهيدي الذي لم ينذر بأنني قد أحمل أي تميز.
دكتور المادة اليوم هو مشرفي على الرسالة، والداعم الأول لي، وبجانب الرسالة أنا آخذ برأيه في كل فكرة بحث أود نشره وتحكيمه لأجده بعد بضعة أيام يمدني بالكثير من المصادر والمراجع، دكتوري هو أستاذ دكتور محمد السيد محمد عبدالغني، العلاّمة في مجال التاريخ واللسانيات الكلاسيكية، وعندما ينظر لي بفخر ويقول: أنتِ باحث واعد، أعلم أنني قطعت رحلة ليست بالسهلة للحصول على احترامه.


أعاني منذ أشهر من شيء يشبه التشتت العقلي، تزايد مع احباطي من هفواتي اليومية في عملي، وصل الاحباط أقصاه الاسبوع الماضي؛ لا أتذكر أنه مر يوم في آخر سبع أيام بدون حالات بكاء هستيري يعقبها تقيؤ، أنا بلا شهية تقريبًا، ولا أنام وهفواتي لا تنتهي.


في الأربعاء قرأت مقالة بالصدفة وكانت تتحدث بنسبة كبيرة عن حالتي. هدأني كثيرًا معرفتي بأنها شائعة وعادية، وأنني كلما وعيت بها وتدخلت مبكرًا كلما سهل علي التعافي وانتشال نفسي منها.


البارحة لم أعمل، قضيت اليوم أقرأ مقالات متنوعة بعضها عن المشاكل النفسية: كالاحتراق الوظيفي، والتشتت، وأسباب توقف السيولة العقلية، وبعضها أكاديمي له علاقة برسالتي.


ثم قررت تطبيق بعض الاستراتيجيات التي تتكرر علي كل يوم في مقالات الصحة النفسية، لجأت إلى زميل عمل وطلبت مساعدته ومشكورًا لم يتأخر وامدني (بزبدة) خبرة لديه ساعدتني في فهم ما كان غائبًا عني. لكني شعرت أنني بحاجة للحديث أكثر مع شخص له خبرة، وأعرفه ويعرفني وأراه ويراني ويرى انفعالاتي مباشرة ويمكنه أن يعرف ببساطة ما الذي يقلقني في العمق، قررت هنا أن اختار الخيّار الأشهر الذي كان يطرحه جورج قرداحي في من سيربح المليون: الاتصال بصديق.


على مدار ساعتين تحدثت وبكيت واسترسلت، ثم جاءتني الحلول الواقعية من ذلك الصديق بكثير من الحزم والعقلانية. شكرته كثيرًا لأنه ساعدني بشكل لا يتخيله، كنت أحتاج لصوت حازم ينتشلني من تقوقعي الطويل داخل حديقة انفعالاتي السرية، وشكرت في سري اتساع دائرة علاقتي في العام الأخير بدرجة منحتني قدرة وحرية التحدث مع صديق له أيضًا خبرة في تخصصي ومجالي.


البارحة بمجرد القراءة والحديث اكتشفت ما لم أكن منتبهة له.


اكتشفت عادات ومخاوف جديدة تسربت لي على مدار الستة أشهر الماضية، قيدتني دون وعي مني وعذبتني ونهشت روحي في العمق وأنا لا أدرك حتى وجودها؛ كخوفي على عملي الذي تحول لوحش يقتلني ببطء، عاداتي الغذائية المضطربة جدًا آخر ستة أشهر وحزني من زيادة وزني وعدم قدرتي في أغلب الأحيان على السيطرة عليه، حزني العظيم من ضياع فرصة حصولي على عقد في المكتبة؛ رغم أنني تجاوزت الحزن بالفعل لكني لم أتجاوز وقع الموقف كله علي، أصلًا اكتشفت أن توقف ذهابي للمكتبة هو الآخر سبب لشعوري بالحزن؛ هناك أملك حياة اجتماعية كاملة ولو توقفت عن التطوع، أدركت هذا عندما ذهبت الثلاثاء الماضي ومكثت في غرفة بحث لمدة ساعتين، فبجانب احتفاء أفراد الأمن بي وتساهلهم معي عند التفتيش، واحتفاء موظفي حجز غرف البحث والوقوف للسلام والسؤال عن أحوالي ولماذا اختفيت، تصادف مرور مديرتي التي دارت بنفسها خصيصًا حول المكاتب كي تصل لمكتبي للسلام علي، وبقية موظفي مكتب الخدمات المرجعية الذين سلموا علي بحفاوة حقيقية ودفء وود صادق لمسته واسعدني، بعضهم طالبني بالعودة (الديسك مالهوش روح من غيرك) وهذا فاجئني، عرضت علي مديرة وحدة التسويق التطوع لديها قائلة أنها تسمع اسمي يتردد بين فريق المتطوعات الأخير وبين مدربي المتطوعين ومن مديرتي الاثنتين وربما في المستقبل أحظى بفرصة مع فتح باب التعيين مجددًا. بقدر ما ابهجني أنني تركت أثر طيب، بقدر ما كنت أشعر بالغصة أن هناك حاجزًا ارتفع بيني وبين المكان الأحب إلي في مدينتي، هذا المكان منحني الروح في سنوات كنت فيها مجرد ظل حزين، ثم نبهني أنني أملك القدرة، بعدها احتضن سنوات عودتي للدراسة الأكاديمية عندما قررت أن أحصل على الماجيستير، وفيه اخذت فرصة أولى في مراتٍ كثيرة على مدار أربع سنوات، هذا المكان سيشهد حتى مناقشاتي للحصول على درجات الماجيستير والدكتوراه، كيف يمكنني تصور انقطاع علاقتي به؟


لكن اهم ما انتبهت إليه كان أنني لا أخاف التغيير؛ فبتأمل صغير لحياتي التي تتغير جذريًا كل عامين أو ثلاثة؛ زواج مبكر، طلاق بعد سبع سنوات أيضًا في سن مبكر، سفر إلى السعودية، تنقل بين القاهرة والإسكندرية من أجل تدريبات المتاحف، تطوعات المكتبة، الدراسة وعالمي يتسع؛ أنا طائر فينيق جميل يخرج من رماده في كل مرة حر وحي وفي صورة أبهى، لكن ما حدث أنني دون أن أنتبه ضيقت عالمي الذي اتسع ظنًا مني أنني أُحكم سيطرتي عليه، قاومت التغيير الرائع الذي حدث وأوقفته وتوقفت عن كوني فراشة اجتماعية وأنا أتخيل أنني أرعى حدودي وأُعيد إحياء منعتي؛ رغم أنني بالفعل بقيت شخص منيع على لطافتي وقربي، وعندما عدت لعالمي الضيق ضاق قلبي، وتقلصت اهتماماتي فتوقف نشاطي العقلي الصافي والمتدفق، أصبحت خاوية وبلا حياة لدرجة انقطاع كلمة (عندي فكرة!) التي أبدأ بها عادتي في عرض فكرة جديدة في عملي أو في تطوعي أو على الأصدقاء كل يوم، جردت نفسي من حياتي كلها وبقيت فقط مع عملي الذي بدأت أتعامل معه بخوف منذ أشهر، ليتوحش خوفي ويزداد علي ويحاصرني ويخنقني، ويمنعني من الاستمتاع بعملي الذي أحبه وحلمت لسنوات به، ويلقيني في هفوات لم أتوقع من نفسي في يوم أنني قد أقع فيها؛ الخوف من الفشل، من التجربة التي قد تفشل والفكرة التي قد لا تلقى قبول، الخوف من أن أفقد عملي فيضيع حلم بعد أن لمسته بيدي، الخوف من أخذل مديرتي، الخوف من كلمة خطأ، عدلي، خوف صغير يكفيه استعدادك لينمو ويحاصرك وينقض عليك ويطفئ نجاحك وأحلامك وطموحك ولغتك وأملك وسعيك وحماسك كله؛ أنا بهذا القدر كنت خائفة.


العمل جزء من الحياة، وهو وسيلتنا الأجمل في التعبيرعن، آسفة لاستعارة هذه الكلمة المبتذلة؛ شغفنا، العمل يمنحنا الشعور بالقيمة والتأثير، ويضخ فينا الروح والحماس والبُعد الإنساني والفكري الرائع الذي يميزنا بينما نتحدث في جمع غريب عنّا، لذلك فهو جزء ممتع من الحياة رغم مصاعبه وتقلباته أحيانًا، لكنه يبقى جزءًا، جزء ممتع لا يحتمل كل هذا القدر من الخوف، جزء لا يطالبنا بنسيان واجباتنا الاجتماعية، والتقصير في رعايتنا لأنفسنا وأحلامنا الأخرى. أدركت البارحة أنني جردت نفسي من حياتي التي بنيتها على مدار أربعة سنوات وأنا أتخيل أن العودة للوراء أجمل، اليوم فقط أُدرك جمالية أن الحياة لا تمنحنا أبدًا فرصة العودة للوراء، لأننا وإن عدنا لا نعود بنفس النسخة التي كنا عليها.


اليوم استيقظت رائقة نسبيًا وهذا ما لم يحدث منذ أشهر، بلا مبالغة، راجعت فصل رسالتي الذي كنت أعمل عليه قبل شهر ونصف، طلبت كتبًا جديدة عن تطوير الكتابة والحس المالي والمناعة النفسية وأنا أضحك في سري من قناعتي التي فرضت نفسها علي دون حتى أن تمنحني فرصة التفكير فيها: مرحلة جديدة تحتاج كتبًا جديدة، شربت قهوة في فنجان جديد، ووصلتني رسالة من صديقة تويترية شعرت أنها رسالة توجيهية من الله للتنبيش في كل ما يجعلني سعيدة لأفعله: ربما البحث عن دروس لتعلم عزف العود في بيت العود العربي في القاهرة. اشعلت شمعة جديدة ومارست التأمل لمدة خمس دقائق كاملة قبل أن يقطعها نداء الوالدة.
الحياة تبدو رائعة هذا الصباح.
ياسمين.

Comments