في جمالية أن تكون مبتدئًا






تسلمت الأربعاء الماضي شهادة نهاية تطوعي في مكتب الخدمات المرجعية في المكتبة، وضعتها في عجالة ضمن أوراقي كي لا تتكسر، وعدت إلى البيت ونسيت أمرها.
هذا الصباح اخرجت محتويات حقيبة الكتب والأوراق ووجدتها أمامي، قرأت محتواها الذي كان أبعد ما يكون عن شهادة تقدير أو رسالة شكر وأقرب ما يكون لتقرير تحركاتي ونشاطي طوال فترة تطوعي التي امتدت أحد عشرة شهرًا كاملة.
توقفت لوهلة عند عبارة "حصلت ياسمين على شهر كامل من التدريب على مهارات………"، ثم اغفلتها عن عمد لأقرأ بقية التقرير.
وظيفة أمين المكتبة في العادة تثير خيالات رومانسية لدى السامع؛ الذي تقفز في مخيلته فورًا صورة لجو المكتبة الهادئ والقراء المنشغلين بأمورهم بصمت وبأقل صوت وحركة ممكنة، والأمين المحظوظ بكونه يعمل في المكتبة؛ ومحاطًا بهذا الكم من الهدوء والكتب والساعات شبه الخالية من العمل، لن أقول أن هذه الخيالات ليست صحيحة، لكنها ليست دائمة.
فساعات العمل في فصل الشتاء الحالم تنقلب أحيانًا لزمن احتراق حقيقي لروح أمين المكتبة، بالذات إن كان يجلس وحيدًا في بلا زميل مساعد في المكتب، أو لو أن ذلك الأمين تسلم ورديات طوابق B2. B4؛ طبعًا أنا كنت مقيمة في B4.
ففي فصل الشتاء الذي يتزامن مع الدراسة، تمتلئ كل طوابق المكتبة السبعة على آخرها بالطلبة الباحثين عن كتب ومصادر ومراجع ورسائل بحثية، وعلى أمين المكتبة التعامل بهدوء وصبر وبابتسامة مستمرة وطول بال لا ينتهي وتعاطف أيضًا مع طلبات الطلبة وتشتتهم وعدم درايتهم الكافية بالكتب التي يجب عليهم البحث عنها، والأهم مع الفروق الفردية والأخلاقية والعقلية لكل مستخدم، والتعامل بحزم أيضًا عند اللزوم، وعند تجمع أفواج الطلبة أمام المكتب الذي يجلس فيه وحيدًا وعليه حفظ الهدوء في الطابق من أجل الجالسين للاطلاع، وهذه عملية ليست بسيطة، أحيانًا كان الأمن يضطر للتدخل والتنظيم كي أستطيع أنا أو غيري من زملائي الأمناء ممارسة عملنا.
أتذكر أننا عندما بدأنا في عد وقياس المستخدمين الذين نتعامل معهم يوميًا؛ أحيانًا كنت أُسجل أكثر من مائتي مستخدم، أحيانًا أسجل 50 سؤال عن الاتجاهات أو أنشطة المكتبة أو الفعاليات المقامة والمتاحف والمعارض والدورات التدريبية التي ينظمها قطاع المكتبات، أكبر رقم سجلته كان 300 عملية بحث تنوعت بين الكتب أو الرسائل البحثية والخدمات والمصادر الإليكترونية التي يجب علي الحديث عنها والترويج لها لأن المكتبة تدفع اشتراكاتها، والحديث عن سفارات المعرفة مع طالبات مغتربات كي يسهل عليهن الحصول على المعلومات من أقرب مكان بدلًا من السفر للإسكندرية، كان هذا في يوم خميس بارد جدًا في ديسمبر، اعتذر فيه زميل موظف واضطررت للجلوس مكانه في طابق B2 وحدي خلال أربع ساعات ونصف، لم أجد فيها وقتًا لالتقاط أنفاسي أو حتى الذهاب لأداء الصلاة، وانتهت الشيفت في تمام السابعة مساءًا وأنا أكاد أن أبكي من الضغط والارهاق والصداع، لكني كنت سعيدة أنني فعلتها وحدي، كنت فخورة بنفسي، ومن بعدها لا أذكر أنني جلست بصحبة زميل، غالبًا كنت أطلب اقتسام الشيفت مع الموظف، أو طلب الجلوس وحدي من كبير المكتبيين، وإن احتجت للمساعدة سأتصل بمكتب الاستعلامات الرئيس.
قد يبدو عمل المكتبيين بسيطًا لكنه في الواقع ليس سهلًا؛ تخيل وظيفة تجمع بين خدمة العملاء والتسويق وتحتاج منك أن تكون قارئًا جيدًا؛ لأن هذا العمل يتطلب ذهنًا حاضرًا يمكنه الربط بين المعلومات للحصول على عنوان كتاب ملائم، يمكنه أيضًا إيجاد كلمات مفتاحية للبحث، والأهم أنه يعرف أين يبحث بالتحديد طوال الوقت، وبالًا أطول من اللازم طوال الوقت، وضبط نفس طوال الوقت، ولم أكن لأحسن عملي وأنا متطوعة إلا من خلال شهر التدريب الذي حصلت عليه، وشعوري بالدعم والتعاون والمساندة؛ بأنني أستطيع أن أتوقف قليلًا قبل أن أُجيب على سؤال المستخدم وأن أستأذنه في الاتصال بزميل للتأكد، وان أتصل بالفعل بواحد من الموظفين للتأكد من المعلومة أو حتى استدعاؤه لمساعدتي لو لزم الأمر، في كل مكتب من مكاتب الخدمات المرجعية كان يوجد مذكرة صغيرة من ثلاثون ورقة بها تعليمات عامة لمساعدة المكتبيين، وجميع الإجابات عن الاسئلة التي قد يطرحها المستخدمين، وجميع أرقام الهواتف الداخلية للمكاتب وأقسام المكتبة ومكاتب الخدمات المرجعية الموزعة في الطوابق، هذا بجانب وجود مكاتب موظفي المكتبة في غرف صغيرة ملحقة بمكتب الخدمات المرجعية؛ يعني في كل الأحوال أنت مُدرب جيدًا، ويمكنك الحصول على أيضًا على المساعدة.
قرأت منذ فترة مقالة في فوربس عن جمالية أن تكون مبتدئًا، وكم الفرص الطيبة التي قد تحظى بها لو تعاملت باتساع وصبر واحترام مع مرحلتك ولجئت لمن هم أكثر منك خبرة واستعنت بنصائحهم، وآمنت ان موهبتك تحتاج للتدريب والصقل والعمل عليها كي تبرزها وتُخرج من خلالها أجمل ما لديك، أن أكون مبتدئة كان دومًا مصدر سعادة وفخر بالنسبة لي لأنني أوقن أنني سأتعلم، وسأجد من يدلني.
تعلمت في المكتبة أن أحترم أنني مبتدئة، وأنني أحتاج للتدريب وللفهم والتساؤل والمساعدة في بدايات عملي، تعلمت في المكتبة أن أسأل عن القواعد؛ كيف يتم ذلك، ما هي الضوابط؟ تعلمت في المكتبة أن ابتهج بإلقاء الأعمال الثقيلة عليّ فجأة لأن هذا يعني أنني كفؤ ولم أعد متدربة ويمكنني القيام بعمل أقدم الموظفين؛ فمن دربني سابقًا رآني اليوم جيدة كفاية لأحل مكانه فاطمئن لاعتذاره عن الحضور ليأخذ اليوم راحة، تعلمت أن عمل بلا تدريب أو قواعد ثابتة واضحة تقافز على الترتيب الطبيعي للتعلم لن ينتج عنه إلا الإحباط والتشكيك في الذات، وأنني قبل قبول أي عمل يجب علي أن اسأل: هل هناك فترة تدريبية أُمرن فيها نفسي على العمل؟ ما هي الضوابط التي يسير وفقها عمل هذه المهمة؟ فاحترامك لمراحلك هو احترامك لنفسك.
يبدو هذا الصباح مفعمًا، على غيرعادة صباحات السبت منذ أشهر.


Comments