هُنيهة البوكر

 

شارع النبي دانيال. الإسكندرية. 2025.

 تبدأ الحكاية في يوم وجدت نفسي ضيفة في حفل إعلان القائمة القصيرة لجوائز البوكر، والذي عُقد في مكتبة الإسكندرية، عندما مررت لي الصديقة هند جعفر الدعوة وهي تسألني: ياسمين، أنا عزمتك؟ وقبل أن أرد، وجدت الدعوة بصيغتها الرسمية مُستقرة أمامي في المحادثة بينها وبيني.

لم أنشغل كثيرًا بالبحث وراء الحكمة من وجودي أنا بالذات (باحثة وكاتبة التاريخ والتراث) في حفل إعلان القائمة القصيرة للبوكر، ولا أُخفي أنني انغمست في سعادة أنني واحدة من المدعوين لهذا الحدث الجلل، الذي كنت أنتظره قبل سنواتٍ كقارئ مُحب للأدب، دون حتى إن أفهم كلمة واحدة عن النقد الأدبي أو معايير الاختيار بين الروايات، ثم كقارئ ومُعد لنشرة بريدية تهتم بأخبار الأدب، وكانت متابعة مُستجدات الساحة الثقافية أولى أولوياتي كمُعّد، لكن أكاد أُجزم في هذه اللحظة، وأنا أكتب هذه التدوينة أن هذه المناسبة محطة فارقة في حياتي.

أجواء الإعلان كانت غرائبية، خاصة وأنها جاءت بعد معرض القاهرة الدولي للكتاب بأقل من شهر، في المعرض كنت أشعر بسعادة الإصدار الأول، والتعرف على الكُتاب، لأول مرة ككاتبة لا قارئة، لكن كلنا كان منشغلًا في النهاية بكتابه، (مرابطًا) في جناح دار النشر التي أصدر فيها عمله، ومع الازدحام الشديد والفعاليات الدسمة، كان معرض الكتاب فرصة ظريفة، لكنها لم تكتمل، للحديث مع الكتاب، والتعرف أصلًا على أجواء الساحة الثقافية، ولذلك شعرت بدفعة من الغرابة الشديدة في يوم الإعلان عن قائمة البوكر القصيرة أمام هذا الكم من الكتاب ذوي العيار الثقيل، وقد وجدتني فجأة ذاهبة أحد الكتاب الذين وصلت رواياتهم للقائمة القصيرة في الدورة الماضية، ووجدت نفسي أُعرفه عليّ؛ خاصة وأنه أشّاد بموضوع كتابي عبر فيسبوك، وكان مُرحبًا وودودًا، ثم سألني: ما الجديد وما هو مشروعك القادم؟ وهنا شعرت بالارتباك، رغم أنني بالفعل أملك خططًا كتابية متفرعة وكثيرة وبعضها (مفتوح) بالفعل من قبل حتى الشروع في بدء العمل على كتابي الذي صدر، لكني ارتبكت لأنني شعرت بمسؤولية؛ أن يسألني كاتب (بوكر) ما خططك؟، بدت لي وكأنها إشارة من الله، أن استقيمي وخذي نفسك على محمل الجد، وحددي خطواتك بعناية.



بقيت أيامًا عالقة في أجواء يوم الإعلان، لا أفهم مشاعري تجاهه تمامًا، كنت بالفعل مشوشة ومأخوذة بكل ما تحمله الكلمة من معاني، كان داخلي خليط من المشاعر التي تتماوج، ما بين السعادة والفرح، والرهبة من هذا الجو (الثقافي الجاد والمشحون)، وحتى الشعور بالحظ؛ فهناك العديد من كُتّاب وقراء الأدب المرموقين الذين يتابعون الإعلان عن قوائم البوكر من خلال التغريدات في تويتر، وكنت أنا أكثر حظًا منهم بنقل هذا الحدث هذه المرة لمكتبة الإسكندرية، ثم بتوجيه الدعوة إلي كي أكون من ضمن الحضور.

حضور حدث جلل كالبوكر سيجعلك تتجه في طريقين لا ثالث لهما، إما ستشعر برغبتك العارمة في كتابة رواية، وأن تسبق اسمك صفة (الكاتب الروائي) وأنت تتخيل نفسك في المستقبل كاتبًا لامعًا، ترد على أسئلة المعجبين، وتنال إشادات النُقاد، ويُذكر اسمك في الندوات والمحاضرات، وتحل ضيفًا على البرامج الثقافية في الإعلام ومعارض الكتاب وورش العمل، وتبتسم بينما توقع رواياتك وطبعاتها التي تجاوزت المئة، أو أنك ستعرف بالفعل أن الروايات رائعة، لكنك ستبقى تدور في فلكها مستمتعًا بها لا كاتبًا لها، وستُفضل البقاء قارئًا للأدب، لكن ستتصاعد داخلك رغبة محمومة في قراءة تاريخ الأدب والنقد، كي تقرأ ما بين السطور، وتلتقط سحرًا ما، أو حتى ترى خطأ ما، ونعم أنا من الفريق الثاني، وإن كنت لا أُنكر أن جنية الحكايات المسحورة صحبتني عندما كنت أتنقل في قاعات بيت جمال الدين الذهبي، لدرجة أنني جمعت عنه مصادر لم أكتبها في كتابي؛ لأن فكرة رواية قد تخلّقت بالفعل في خيالي عن هذا البيت، لكني شعرت في النهاية بعدم الرغبة فعلًا في كتابة الروايات، بل الاستمتاع بها.

في طريق العودة إلى البيت من إعلان قائمة البوكر القصيرة، ابتسمت لخاطر أن اهتمامي التاريخي كان لا بد أن يتقاطع مع الأدب؛ أحيانًا كان الأدب الملحمي مبعث بحثٍ طويل أُجريه، وأحيانًا أجد أن التاريخ والأدب يسيران متلازمين، ويُفسر أحدهما الآخر، الإسكندر نفسه كان نتاج (فكرته الأدبية عن نفسه) وكل هذه الانتصارات التي حققها في عمرٍ صغير كانت نوعًا من التحدي الصامت لهرقل وأخيل، ورغبة دفينة في أن يتحول هو الآخر لأسطورة (مشهودة وحقيقية) رآها الناس، وساروا بجانبها وحاربوا معها، ثم أن رسالتي التي أعمل عليها عن الأدب، والموضوع الذي يشدني كرسالة دكتوراه أيضًا أدبي بحت، أنا محاطة بالخيال، وأستمتع بوجوده حولي، لكني لم أشعر للحظة واحدة في حياتي أنني أرغب في كتابته، وهذه نعمة أشكر الله عليها.

بدأت في اليوم التالي البحث عن كتب النقد، وانتهى بحثي بتجميع الكثير من العناوين، دون أن أشعر برابطٍ بينهم، ودون أن أفهم كيف أُرتبهم، ودون أن أفهم (ابتدي منين الحكاية) وبأيُهم أبدأ القراءة، وبينما أنا جالسة أُفكر في اسمٍ أستشيره، لمعت فكرة في عقلي: انزلي شارع النبي دانيال.

المسافة بين بيتنا وشارع النبي دانيال لا تتعدى العشر دقائق أو الربع الساعة على أي حال، لكن أجواء الاستعداد لرمضان والزحام المصاحب لها، جعلت الرحلة تستغرق حوالي 40 دقيقة، لا أُبالغ لو قلت أنني قضيتها بالكامل سارحة، في السماء الرمادية التي تتلون تارة بالأزرق والأبيض، ثم تعود بعد دقيقة لرماديتها، كان هناك تساؤل يلح عليّ: إلام تريد ياسمين الوصول؟ وفي الواقع لم أفهم سر استسلامي لخاطر النزول لشارع النبي دانيال، لم أفهمه أبدًا.

استقبلتني الشمس في شارع النبي دانيال وكأن الرمادية في السماء قد قررت التنحي، لا أملك ذكريات حقيقية مع الشارع، رغم أنني سكندرية، لكني لم أذهب إليه إلا مرة واحدة في عمري قبل التطوير، وكنت في طريقي للمعهد الفرنسي لحضور محاضرة في عام 2016، لا أشتري منه الكتب، ولا أحب الثرثرة مع بائعي الكتب، ولا مع الغرباء في العموم، الشارع بعد تطويره اتخذ هيئة سكندرية ظريفة، ذكرتني بالاستديوهات التي كانت المُسلسلات المصرية في التسعينيات تُصور فيها، مسلسل زيزينيا في الواقع، ولأول مرة أنتبه أن الشارع ممتد على جانبي الطريق، وأنا التي كنت أظن أن شارع النبي دانيال هو ذلك الذي يبدأ بأكشاك بيع الكتب.

تمشيت قليلًا في الجزء الثاني من الشارع، والتقطت الصور للبنايات السكندرية ذات الطابع الأوروبي التي طُليت حديثًا، فعاد إليها رونق حنون وقديم، ثم عبرت الطريق في اتجاه الجزء الأهم: الأكشاك، التي ما أن مررت بجانبها حتى تذكرت الأكشاك الباريسية الخضراء التي أثارت جدلًا في الشارع الباريسي عندما هُدد بعضها بالنقل من مكانه، لأغراض أمنية فرضها حفل افتتاح دورة الألعاب الأوليمبية الأخيرة، لم أنشغل حينها في تاريخ هذه الأكشاك، لكني فجأة شعرت بالحماس لإجراء حديث مع بائع للكتب في إحداها، كنت أرغب في العثور على نسخة سيرة الأميرة ذات الهمة وولدها عبدالوهاب ذات السبعة أجزاء، فقررت البدء في حديثي معه عن ذات الهمة، وإن كانت تتوفر لديه، وعدني بالبحث عنها، ومرر رقم هاتفه في بطاقة صغيرة، ثم سألته عن كتب النقد الأدبي، فنظر إلي باهتمام وقال لي: بس انتي شكلك بتاعة تاريخ، عندها ابتسمت بتلقائية، وأنا أقول في عقلي: مثلي يُذاع سره وتفضحه اهتماماته، ثم قلت له أنني مهتمة بالقراءة عن النقد، رشح لي العديد من الكتب، وأطلعني على كتابين، وقال لي مُحذرًا أن القراءة في النقد ستجعلني قارئًا جيدًا للأدب، لكني لن أستمتع به كما السابق.



في طريق عودتي إلى البيت كنت أُقلب في رأسي نظرية (نعيم الجهل) تلك التي كان البائع يُحاول إقناعي بها، أتفهم وجهة نظره، لكني مدفوعة برغبة لا أفهمها في قراءة النقد، ربما لأنني أرغب في أن أُصبح كاتبة أفضل، وقراءة النقد ستجعلني انتبه قطعًا لتفاصيلٍ صغيرة ناقصة أو زائدة في ما أكتب، أو هفوات تُقلل من قيمة ما أطرح، أو حتى ستمنحني زاوية جديدة أو رؤية جديدة، بعيدة عن المتعارف عليه.

هذه التدوينة مكتوبة منذ أسبوع تقريبًا، وحاولت على مدار هذا الأسبوع فهم الحكمة من نزولي لشارع النبي دانيال، في النهاية خلصت أن الشارع (نده عليا) كسكندرية في قطيعة غريبة مع مدينتها، كي أهرول إليه، وأنتبه لشيء ما، ما زلت حتى هذه اللحظة لا أعرفه.

لكني اليوم بالذات أرغب في العودة إلى التدوين عن (مشوار الكاتب المبتدئ: أنا) وما الذي ألقاه وسألقاه في هذه الرحلة.

ربما حضوري البوكر كان حسن حظ يُضاف إلى قائمة المصادفات القدرية الرائعة التي حظيت بها، وربما لن أصبح الروائية ياسمين عبدالله، ما زلت أُفضل أن أبقى الباحثة الكاتبة، ربما قدري أن أكتب عن التاريخ والتراث، وأن أتقاطع مع الأدب كي أرى وأُبصر جمالية ما في التاريخ والتراث، فأنقلها وأُشير إليها، ربما حدث البوكر كان يؤكد لي صحة مساري. أنا كاتب مبتدئ ومتحمس وكم تُسعدني هذه الحقيقة.

Comments