الحياة على سطح المكتب
أُعاند نفسي منذ عام 2020، وأؤجل فكرة أن أُخصص مساحة ثابتة للعمل في
غرفتي، وأعذر نفسي، يعني بدأت العمل بعدما تخطيت الثلاثين، ومجرد وجود مكتب صغير
في البيت الذي أتعامل معه على أنه واحة ومستراح وجنة، كانت تُكدر صورتي الذهنية عن
الراحة، والدُعة والوداعة وكل المفاهيم الرقيقة التي ترتبط في خيالي بالبيت، في
العادة أنا آخذ عملي لمقهى أو لغرفة بحث في المكتبة، إلى أن خالفت تلك القاعدة في
المشروع الأخير الذي عملت عليه، وكنت أسهر طوال الليل للعمل به، إما على طاولة
السفرة، أو طاولة قابلة للطي نقلتها من البلكونة (المُقفلة كمخزن) إلى غرفتي، ومنذ
يناير وصوت فكرة المكتب يتعالى، خاصة بعدما أتممت عملي في المشروع من طاولة
(السراحة) في غرفتي بالفندق الذي نزلت به وقت معرض الكتاب؛ كنت أذهب للمعرض بعد
العصر، وأعود في تمام العاشرة ليلًا بعد جولة وعشاء في القاهرة نفسها، لأنقل عطوري
وأدوات مكياجي للأرفف الخارجية للخزانة، وأصف مكانها حاسوبي وأقلامي، ودفتري وكوب
قهوتي، وأعمل حتى تشرق الشمس، وربما إقامتي في القاهرة هذه المرة وإتمام عملي من
غرفة الفندق، دون أن أشعر بانتزاع راحتي هي ما جعلت صوتي الداخلي الآمر بضرورة
تخصيص مساحة ومكتب للعمل في غرفتي، فور عودتي للإسكندرية، يتصاعد وأُنصت إليه، دون
أن آخذ خطوة.
لكني فعلتها فجأة في مطلع الأسبوع الماضي، بدون تخطيط وجدتني وقد أتممت عملية شراء مكتب صغير عبر الإنترنت، وصلني يوم الثلاثاء، ركبته ببساطة، ولا أعرف كيف تذكرت لوحة لمشهد شارع في القاهرة، اشتريتها منذ سنة وكنت أرغب في تعليقها على الجدار ونسيت حتى إضافة مسمار يحملها، أخرجتها من الخزانة، ووضعتها على طاولة المكتب، صورة أخي، كوب الشمعة الذي أصبح كوبًا للأقلام، مزهرية وشمعة وعطر وقطرة لترطيب العين وكريم مُرطب لليدين، هكذا أصبح لدي مكتب..
بينما أشرب قهوة السحور على عجل تأملت في الثبات الذي يأتي به العمل من على مكتب خاص، يحمل أغراضي دون أن أضطر لترتيبها وإعادتها لأماكنها بالأدراج بعد انتهاء جلستي، أترك الجلسة وبها آثار العمل، واستيقظ في الصباح وتلك الفوضى/ الآثار لا تزال كما هي دون ترتيب في الأدراج، حياتي التي تسير في إيقاع ناعم وهادئ، وحتى التغييرات الصادمة فيها تأتي على مراحل كي أتحضر ولا تُباغتني بانقلاب مُفاجئ، حياتي لأول مرة تعرف معنىً جديداً للثبات، غير الثبات الذي تعودت عمري كله عليه.
كانت هذه الفقرات الثلاث تدوينة صغيرة، نشرتها على نطاق ضيق بين بعض من أصدقاء فيسبوك، ولم أتخيل أنها قد تتحول لتدوينة أضعها في المدونة، كنت منشغلة اليوم التالي بفكرة البحث عن أماكن عمل الكُتّاب (مكاتبهم وكيف تبدو في الحقيقة، لأنني كنت أحاول الإجابة عن سؤال يشغلني ويتعلق بطقوس الكتابة وهل تسهم مساحة المكتب في خلقها) وإذا بي أجد تغريدة للأستاذة داليا عاصم، وهي تتحدث عن مارك توين المولع بالراحة التي تقترب لحد الكسل، والذي كان يقرأ ويُمارس الكتابة من فراشه، ابتسمت للعلامة، وشعرت برغبة في تتبع مكاتب الكُتّاب.
في الحقيقة، وبرغم من كسل مارك توين الشهير، إلا أن الرجل امتلك بالفعل
مكتبًا فوضويًا كان يجلس إليه للكتابة والعمل، وربما تفوته وجبة الغذاء لأن عائلته
كانت تتحاشى المرور حتى بجانب حجرة مكتبه خشية إزعاجه، ووصل الأمر لدرجة أنهم
يستدعونه عند الضرورة من خلال النفخ في بوق، ما أن يسمع توين صوته حتى يخرج من
مكتبة ليستطلع هذا الأمر العاجل، ويُقال إنه كان يكتب أيضًا على مكاتب الوقوف،
شاركه في تلك العادة ونستون تشرشل، رجل الدولة والعسكري والكاتب البريطاني، وكاتبي
الأمريكي المفضل إرنست همنجواي؛ والذي يُقال إنه كتب رواية الصيف الخطير في مالقة،
وربما كُتبت بعض أجزائها على هذا المكتب الواقف بالذات.
وبينما تنوعت طرق الكتابة لدى توين، فضل برنارد شو أن يكون مكتبة كوخ
صغير؛ فمع وجود حجرة مُطالعة ودراسة كبيرة في بيته، كان جورج برنارد شو يُفضل
الكتابة من كوخه الصغير الذي أسماه ركن شو= Shaw Corner، والذي كان يُطل على حديقة بيته الكبير،
ويتضمن مدفأة كهربائية، وآلة كاتبة، وسريرًا بطابقين لغفواته، وهاتفًا متصلًا
بالمنزل يمكن استخدامه في حالات الطوارئ مثل الغداء، في الواقع أحببت كوخ شو بدرجة
عجيبة، لكني أعود لأُفضل المكتب الذي لا يعزلني عن العالم، لذلك أحببت مكتب بول
أوستر الخشبي الموجود بداخل بيته؛ مكتبه كان شديد البساطة، لكن الجزء الذي أثار
انتباهي في هذا المكتب، وربما انتباه العديد من المعجبين الذين تناقلوا صور مكتب
بول أوستر في مدوناتهم، والصحافيون أمثال الصحافي الذي حاوره في عام 2017 لصالح ذي فايننشال تايمز، هو الآلة الكاتبة ذات اللون الأبيض والغياب التام للحاسوب، ويقول
أوستر محاورًا الصحافي؛ أنه كتب مسودّة روايته "4321" ذات ال1100 صفحة
يدويًا، ثم طبعها على آلة كاتبة "أقدم منك بكثير"، ثم ساعده شخصٍ ما على
إعادة طباعتها على حاسوبه، وبينما أتنقل من مكتب كاتب لآخر، فقز لعقلي تساؤل: أي
المكاتب التي تُثير فيك الحماس؟
إيزابيل الليندي، هذه إجابة قفزت لعقلي لتواجه السؤال، قبل حتى أن أنتهي منه، الصورة التي التقطت لها قبل عامين أو ثلاث تُخلد جلستها في مكتبها كانت دافعًا لي، مع الطموح وحب البيوت القاهرية في إنجاز كتابي، ولا أُنكر غيوم الدموع التي تجمعت في عيني بينما أُطالع صورة لفاطمة المرنيسي وهي تجلس على مكتبها ببيتها في أكدال بالرباط، بقفطانها الوردي وشعرها القصير الأحمر، مكتبها يُشببها، من خلفها رفوف الكتب التي بدا بعضها غير منظم ما يشي أنها في حالة بحث محمومة، أما طاولة المكتب فقد استقر عليها حاسوب ومزهرية بها ورود بيضاء رقيقة، والصورة تُخلد لحظة كانت المرنيسي مُنغمسة في قراءة شيء ما على شاشة الحاسوب، التي ألصقت عليها ورقة تذكير صفراء كبيرة، هنا انهمرت دموعي، لأنني أُمارس نفس العادة عندما أكون مُنشغلة في (إقفال مهامي) كي لا أنسى شيئًا، أهديتها الرحمة وأنا أُفكر في جمالية أن نشترك بدون تخطيط أو قصد مع كاتبنا المفضل في عادة صغيرة يُمارسها، وتساءلت ماذا لو قدر لي الله مُقابلة هذه السيدة، ولو لمرة واحدة في حياتي.
كتبت لويزا ماي ألكوت، صاحبة نساء صغيرات، من على مكتبٍ بيضاوي صغير ومنمنم وجميل، أعده لها والدها في بيتهم بين نافذتين، رأيت العديد من الصور للمكتب وبعضها تصور الشمس الداخلة من النافذتين أو من إحداها لتسقط على المكتب، لكن أظرف المكاتب على الإطلاق كان مكتب جين أوستن، مكتبها غريب، والأغرب أنه نفسه يحمل قصة، ففي عام 1794، أهداها والدها"صندوق كتابة" محمول، عند فتحه يوفر مساحة منحدرة لوضع الورق عليه في أثناء الكتابة، بينما تتضمن مساحة سطحه أماكن لمحبرة ودرجًا قابلًا للقفل، مُخصص للورق والأشياء الثمينة. والمدهش أنه بين عامي 1795 و1799، كتبت جين أوستن على هذا المكتب الصغير المسودات الأولى لرواياتها الشهيرة "العقل والعاطفة" و"كبرياء وتحامل" و"دير نورثانجر"، لكن حدث أنه في أثناء سفرها عبر دارتفورد عام 1798، كادت جين أوستن أن تفقد هذا المكتب مع مدخراتها البالغة سبعة جنيهات، عندما وُضع عن طريق الخطأ في عربة تجرها الخيول متجهة إلى دوفر، لكن أنقذته عناية الأقدار، وعاد إليها ليظل لديها إلى حين وفاتها عام 1817، عن عمر يناهز 41 عامًا، فورثت أختها كاساندرا المكتب. ثم انتقل لاحقًا إلى عائلة شقيقها الأكبر، ثم في عام 1999، قامت جوان أوستن لي، ابنة أخت جين أوستن الكبرى، بإهداء الكتاب إلى المكتبة البريطانية، ليستقر لديها حتى الآن.
هل يؤثر المكتب في تشكيل عادات وطقوس الكتابة؟ ربما، لكني مع البحث عن مكاتب الروائيين الكبار ومُضاهتها برواياتهم، أصبحت شبه أكيدة في أن المكتب ودرجة فوضويته أو ترتيبه، وشكله، وحتى الأدوات التي يهتم الكاتب بإضافتها إليه، كلها تؤثر في الرواية المكتوبة عليه، وبشكلٍ ما تُشبهها، رواية بول أوستر الطويلة بدت لي نتيجة جدًا منطقية مع الآلة الكاتبة والمكتب البسيط وعدم وجود حاسب آلي يوضح له عدد الصفحات والكلمات التي قام بكتابتها، وروايات جين أوستن نقلت لي حماس امرأة تكتب على مكتب محمول، جدًا صغير، ولا تُبالي بحجمه أمام انسياب خيالها وعقلها على الورق، ونساء ماري لويز ألكوت الصغيرات بدون لي مناسبات تمامًا مع مكتبها الرقيق جدًا والصغير جدًا، والواقع بين نافذتين، كإختلافاتهن التي يقع العقل حائرًا بينها، وكتب فاطمة المرنيسي تبدو متناسبة تمامًا مع امرأة تتمسك بأصالتها فترتدي القفطان جالسة أمام حاسوبها تكتب عن النساء، وإلى النساء، وإلى العالم.
دعوت الله مطلع هذا العام أن يكون لي جذور راسخة في العديد من الأماكن والعلاقات والمعاني، وبينما أكتب هذه التدوينة الطويلة، أو أعمل في رسالتي، أو أحاول إنهاء أحد بحوثي، ابتسم لشعوري بأن جذري الأول يمد نفسه للتو في أرضٍ اسمها الحياة.
عزيزي مكتبي، متفائلة بك، لأنك ستشاركني أهم اللحظات منذ الآن إن شاء
الله، وربما سأنتقل من هذا البيت، وسأحظى بمكتب أحلامي (مكتب ضخم من الخشب الزان
المُطعم بالصدف في غرفة مكتب كبيرة تُزينها مشربية وتتوسطها بحرة، ولن أتنازل عن
هذه الغرفة أبدًا) لكني مهما تنقلت سأحملك معي، وستبقى مُكرمًا 🤍
Comments
Post a Comment