في ظلال الياسمين

 


Gyula Benczur, Woman Reading in a Forest, 1875, Hungarian National Gallery, Budapest, Hungary.


ما قبل الافتتاحية

لا أعلم هل هو حنين لإعداد نشرة بريدية، خاصة مع رسائل البريد الأليكتروني التي تأتيني من بعض مشتركي/ كُتّاب ومن إدارة موقع هدهد الذي كنت سجلت عليه وبدأت بالفعل في التخطيط لإطلاق نشرتي البريدية عبره، وهذه الرسائل تبعث على مشاعر الحنين الممتزجة بالذنب من انشغالي الشديد بمشروعاتي الكتابية والبحثية وإهمالي لجانب أحبه ويُلمهني، أم أن الأمر كله ثرثرات تكومت داخلي؛ خاصة وأنني كنت قد خططت للتدوين الأسبوعي لكن أخذتني الحياة.

ما أعرفه هو أن هذه التدوينة ستكون مُقسمة لفقرات، تمامًا كالنشرة التي كنت أُعدها قبل عامين.

فنجان قهوتي الصباحي، الصورة لا طائل منها في الحقيقة، اللهم إلا الفصل بين فقرتين :).



صفحة

في بدايات عملي، كنت أُعامل كل الناس بلطف شديد، وبطريقة شبه متحمسة على الدوام؛ المدير كما الزميل، وكنت أمد الجميع بمقترحات تُفيد عملي معهم، أو مشروعٍ نعمل عليه، أو تُفيد أدوارهم هم الشخصية في المشروع نفسه والمشروعات الأخرى، لم أتجاوز أبدًا حدود اللياقة والأدب، وكنت أُراعي ظروفهم وأتخّير الوقت الملائم لتمرير المقترح أو الملاحظة أو السؤال الحائر. سيبدو هذا الكلام رائعًا، ونعم هو رائع، لكني مع الخبرات الحياتية الكثيرة والمباغتة في آخر عامين، أدركت أن الخلل كله في حماسي الزائد وتمريري الصادق للمقترحات التي لا تتعلق بي، بل بهم، ودون طلب، وأعرف أن كثيرًا منها أُخذ بالفعل بعين الاعتبار، وكثير منها تم تنفيذه بالفعل، وكثيرًا ما تم شكري بصدقٍ على ملاحظتي التي مررتها بشجاعة وساهمت بوجود فرصة تنفيذ أفضل للعمل، لكن اليوم بالذات أعرف جيدًا أن المتحمس يؤخذ بعيون مختلفة: قد يُرى أنه يحاول إثبات جدارته، أو أنه (أبو العُريف شايف نفسه وبيحب يفتي في كل شيء؛ حتى لو كلامه صح)، أو أنه لطيف، ولطيف هنا بمعنى الغر الساذج، لأنه يمنح ببساطة من وقته وجهده وتفكيره لغيره، دون أن يُطلب منه، ودون استفادة حقيقية، وفي كل الحالات، مع الأسف، لطافتك تلك قد تؤذيك.

لا زلت أؤمن بالخير وضرورة مساعدة الآخرين في حالة الاستطاعة، لكني أيضًا أؤمن بأن التطوع أحيانًا للمساعدة قد يفتح أبوابًا غريبة للأذى أو التعدي أو حتى النظرة السلبية التي لم يتوقعها الشخص الذي ينحصر تفكيره في التحسين والمساعدة.

أنا لبقة في العموم، ذكية و(ذربة) حتى، ولا زلت نفس المرأة اللطيفة البشوشة المجاملة بصدق؛ يعني لا أُجامل أبدًا بصفة ليست موجودة في الشخص الذي أُجامله، بل أُبرزها بلطف إن اضطررت للرد على كلمة طيبة، حتى ولو كنت على خلاف مع الشخص؛ وهذه مهارة أخرى اكتسبتها بالاحتكاك بالناس، فليست كل المواقف جديرة أن تتحول لمعارك وأنا أولى بوقتي وانتباهي، لا زلت بنفس الروح لكني تعلمت أكثر بالعمل والخبرة والتعامل مع الناس خاصة في الوسط الأكاديمي والثقافي أن أستمع أكثر مما أتحدث، وأن لا أُمرر أي مقترحات لا تخص عملي واسمي؛ تعلمت ماذا أقول لمن.

هذا كان ردي على سؤال صديقة أكاديمية ترغب في كتابة المقالات، وكانت تسألني كيف تتغلب على إشكالية ميلها للهجة الأكاديمية التي تُرفض من مُحرري المقالات ومسؤولي النشر في دور النشر، سردت لها هذه القصة، وحتى هذه اللحظة لا أعرف لماذا استدعى سؤالها هذه الذكرى، ثم قلت لها: اعرفي بتكلمي مين ونوع الجمهور والمفروض تقولي له أيه وبأي لهجة، وأد إيه مساحتك. وأتخيل أن إجابتي تنطبق أيضًا على الحياة.





يعرف السحر كيف يخلق نفسه من التكرار

قبل أن أكتب هذه التدوينة، كنت أبحث عن إجابة لتساؤل كان يلح علي: كيف يقرأ الكُتّاب الكتب والروايات؟ في الواقع التساؤل/ الموضوع يشغلني منذ قرأت كتابًا أهدته لي الصديقة الرائعة (نوال القصير) لدى زيارتها للإسكندرية في أكتوبر الماضي، الكتاب كان عبارة عن شهادات روائيين أسبان، وتسجيلاتهم لمبرراتهم الخاصة التي تدفعهم لكتابة الروايات، أتذكر أن السؤال الأكبر الذي راودني بعدما انتهيت من قراءة الكتاب هو قلة الأسماء التي نعرفها ونقرأ لها من الكُتّاب والروائيين الإسبان؛ يعني لا أجد في معظم المكتبات وأرفف دور النشر الكبيرة وحتى المناقشات الحامية بين أصدقاء القراءة في تويتر أسماء من إسبانيا، اللهم إلا كارلوس زافون وأنطونيو جالا، لكن التساؤل الصغير الذي نمى جانبًا: كيف يقرأ الكُتّاب روايات زملائهم؟

في الواقع انشغلت بكتابي وعملي وأخذتني الحياة، حتى مطلع أبريل عندما عاد نفس السؤال فجأة يقرع أبواب خيالي: كيف يقرأ الكُتّاب روايات الروائيين والكُتّاب الآخرين؟ وهل أفادتهم هذه القراءة في كتاباتهم، ولو حتى على سبيل النقد؟

أنا معروفة بين الصديقات ومعظم الناس باهتمامي بفكر فاطمة المرنيسي، لذلك بدأت بحثي في جوجل عن كيف قرأت فاطمة المرنيسي الكتب والروايات، لكني لم أجد إجابة حقيقية، الاسم التالي الذي قفز لعقلي عوضًا عن المرنيسي كان عبدالفتاح كيليطو، وقبل أن أبتسم لاكتشافي المفاجئ بأنني (مغربية الهوى) بالذات عندما يتعلق الأمر بالكُتّاب غير الروائيين، وجدت مقالة تتحدث عن متاهاتٍ يضع فيها عبدالفتاح كيليطو قراء كتبه النهمين، سواء عن قصد أو بدون قصد.

 تتحدث المقالة عن كيليطو صانع الأفخاخ، ذو الذاكرة الانتقائية التي تمارس النسيان أو الإسقاط المتعمد لبعض عناوين الكتب التي قرأها على طول حياته وأيامه، كيليطو الذي يلتف على اللغة ويُمرر في ترجماته ما لا تحمله النصوص الأصلية لغرضٍ لا يعلمه سواه، وهو نفسه الكاتب الذي قد يُمرر في كتبه عنوان غير موجود لكتاب أو لرسالة علمية، تاركًا قراءه ومُريديه في مهمة بحث مستحيلة، طبعًا كاتب المقالة المتحامل يتحدث ببساطة عن إدراك كيليطو واستدراكه لكل هذا، والذي عبر عنه في كتاب (في جو من الندم الفكري)، والذي استمتعت به شخصيًا؛ أنا من مُريدي كيليطو الأذكياء وحسني النوايا، من ناحية أعرف أن ذاكرته ولغته قد تمرران ما ليس موجودًا بالفعل، ومن ناحية أخرى لا أبحث عن سر تشتته ونسيانه، ولا أحاول التأكد إن كان متعمد أم لا، في الواقع سأسعّد لو كان متعمد، لأني أحب فكرة أن خيال الكاتب ينسج (حقيقة موازية خاصة به وحده) من بعض ما هو موجود وواقعي، لكن ما أثار انتباهي في هذه المقالة كانت فقرة تتحدث عن احتمالية مُضحكة، رُبما يحاول كيليطو تمريرها عن نفسه كما يقول كاتب المقالة، وهذه الاحتمالية مفادها أن كيليطو لم يقرأ العديد من الكتب، وإنما عناوين معدودة، أعاد وزاد في قراءتها. اقتبس قول الكاتب من المقالة هنا: "تعود نظريّة الكتب المعدودة للظهور بعد الانتهاء من الكتاب، ربما كيليطو لم "يقرأ" كما نظن، لكن هذا أيضاً غير منطقي، أولاً اسمه نفسه يعني "الذي قرأ كل شيء Qui lit tout=، هذا ما يشير إليه أيوب مزين في مقال له بعنوان "عبد الفتاح كيليطو: هل يقرأ فعلاً كل شيء؟". كما أن مؤلفاته تحوي إحالات واقتباسات لكتب واضح أنه قرأها، وحذلقات متعددة تدل على اطّلاعه".

 (قبل أن أنسى، مقالة أيوب مزين التي أشار إليها الكاتب مُلهمة، استمتعت بقراءتها لولا الخط المغاربي المُرهق لعيني التي تعودت النسخ العادي، لكنها فعلًا جديرة بالقراءة. في حالتي قمت بنسخها في ملف وورد لأتمكن من قراءتها دون شعورها بأن الأحرف ثعابين تلتف حول نفسها وتُرهق نظري).

أعدت قراءة هذه الفقرة حوالي ثلاث مرات، وأنا استرجع قول أوسكار وايلد: "إذا لم تستمتع بتكرار قراءة الكتاب نفسه أكثر من مرة بالقدر نفسه، فلا حاجة إليك إلى أن تبدأ بقراءته من الأساس"، أنا من مُناصري الكتب الممتدة، وإعادات القراءة كل فترة لأن المنظور وزاوية الرؤية ودرجة (الإبصار) بما يُمرره الكتاب تختلف بمرور الوقت وبتزايد الخبرات والقراءات، تتغير شخصياتنا فيُصبح الكتاب المقروء من قبل كتاب جديد نقرأه بعين وفكر مختلفين عن القراءة السابقة، وربما لهذا شعرت ببعض التشوش تجاه كيليطو؛ أعلم أنه كأي قارئ، ينحاز في النهاية لكتب بعينها ويُكرر الحديث عنها لأنه يستقي الإلهام منها، لكني أتفق مع كاتب المقالة في أنه بالفعل قرأ أكثر مما يُبدي، لأن كتبه تُثبت هذا.

 وبعيدًا عن كيليطو العجيب، نسيت، أو أسقطت متعمدة رغبتي في البحث عن (كيف يقرأ الكُتّاب روايات غيرهم) أمام رغبتي الآنية في تتبع رأي الكُتّاب في إعادة قراءة نفس الكتاب أكثر من مرة، طالعني في مقالة بموقع الجزيرة رأي ديكارت المُشجع على قراءة الكتاب نفسه أربع مرات؛ "الأولى قراءة عامة، والثانية تبحث خلالها عن حجج الكاتب، أما الثالثة فتحاول أن تجيب عن أسئلتك مثل: ما الذي لم أفهمه؟ والرابعة لبقية أسئلتك التي لم تُجب عنها في المرة السابقة".

 بالمزيد من البحث وجدت أن هناك كتابًا فرنسيًا صدر بالفعل في عام 2015 وهو يتتبع فكرة إعادات القراءة وآراء الكُتّاب فيها، الكتاب للفرنسية لور ميغاط Laure Murat ، واسمه (إعادة القراءة : تحقيق في الشغف الأدبي= (Relire : Enquête sur une passion littéraire ، ولا أعلم لماذا لم يُترجم هذا الكتاب للغة العربية، ولا أعلم أصلًا لماذا لم يكتب أحد النقاد العرب حتى الآن كتابًا عن إعادة القراءة وتتبع سيرتها مع الكُتّاب العرب.

 




بحسب المقالات التي قرأتها عن هذا الكتاب، تتعمق الكاتبة "لور موغاط" (فرنسيتي صفر لأنني درست الألمانية في المرحلة الثانوية، لذلك أنا غير متأكدة من نطق اسمها إن كان ميغاط أو موغاط)، تتعمق الكاتبة في عالم إعادة القراءة، وكيف أن دافع الكاتبة لكتابة هذا العمل كان تجربتها الشخصية، حين شاهدت في عام 1987 عرض أتيس للولي بنسخة كريستي-فيليجييه في دار الأوبرا ، ثم بعد ما يقرب من ربع قرن في عام 2011، أعادت مشاهدة نفس العرض مرة أخرى في فرساي، لتفاجئ عندها أن بعض المشاهد المسرحية قد تغيرت وأخرى حُذفت. هذا التغيير خلف لديها إحباطًا وخيبة أمل في البداية، لكن سرعان ما تحول هذا الإحباط إلى دافع قوي لإنجاز تحقيقها حول إعادة القراءة وبيان دورها بحسم وجلاّء في الكتابة، وفي حتى تناولنا لفكرة وفي تتبعها.

 تبدأ رحلة الكاتبة البحثية بإجراء تحقيق شامل ومسح دقيق، يضم شهادات كبار المؤلفين الذين يُعتبرون قراءً متميزين، مثل "كرستين أنغوت"، "باتريك شاموازو"، "جون إشينوز"، و"آني إرنو". وقد لامس هذا التحقيق جوانب مختلفة من تجربتهم الحميمية مع إعادة القراءة. تقول "ليندا لي" على سبيل المثال: "بعض الكتب لا تكشف عن معناها إلا من خلال قراءة ثانية أو ثالثة". وقد أوضحت "لور ميغاط" أن أغلب هؤلاء الكتاب يعيدون قراءة الكتب إما لضرورة مهنية، أو من أجل تحقيق المتعة واللذة التي لا تضاهيها متعة.

 وبحسب المقالة التي تناولت هذا الكتاب، لم تكتفِ الكاتبة بالشهادات، بل عززت تحقيقها بأرقام وإحصاءات تكشف عن أكثر الكتب التي تُقرأ مرارًا وتكرارًا، خاصة الأعمال الخالدة التي تركت بصمتها في تاريخ الإبداع الأدبي العالمي، مثل أعمال "مارسيل بروست"، و"فلوبير"، و"بودلير"، و"شكسبير"، و"بلزاك"، و"رولان بارت" وغيرهم.

 في مقالة بالفرنسية نشرتها لوموند، قرأت في مطلعها قول رولان بارت (طبعًا أنا معتمدة على ترجمة جوجل وأنقلها هنا بتصرف)، يقول بارت عن إعادة القراءة: "لم تعد استهلاكًا، بل لعبًا، وهذا اللعب يتمثل في عودة المختلف، وهو وحده ما يُنقذ النص من التكرار، لأن من يُهمل إعادة القراءة يُجبر نفسه على قراءة القصة نفسها في كل مكان". ولم أجد أعمق من هذا التوصيف لشرح حالتي الذهنية عندما أُعيد قراءة كتاب للمرة التي لا أعرف كم، يُقال بالمصرية الدارجة: من فات قديمه تاه، وبرغم أن المثل يتحدث عن التمسك بالعادات والتقاليد والهوية، إلا أنني وجدته مناسبًا في حالة الكتب؛ العودة لبعض الكتب أحيانًا نوع من القدر.


نزهة




أحب التنزه في العموم، أحب المشي في القاهرة، أو أن أتنزه بعيني في المكان واللوحات والقطع الفنية والأثرية، ومنذ فترة كنت أتنزه في لوحة كونوهاناساكويا بريشة إينشو دوموتو، وما يجعل هذا المسير الناعم أحيانًا يأخذ منحى أجمل هو وجود حكاية تمررها لي اللوحة.

الأميرة كونوهاناساكويا هي إلهةٌ مُبجَّلة في الميثولوجيا اليابانية، ذُكرت لأول مرة في كوجيكي، أقدم سجلٍّ تاريخيٍّ يابانيٍّ باقٍ للآن، وقد جُمِعَ في أوائل القرن الثامن، واسمها، الذي يعني "الزهرة المُتفتِّحة"، يعكس جمالها الأسطوري، الذي يُقال إنه يُضاهي جمال كونوهانا (زهرة الكرز المُتفتِّحة). 

كونوهاناساكويا هي ابنة أوياماتسومي-نو-كامي، إله الجبال، وزوجة نينيجي-نو-ميكوتو، حفيد إلهة الشمس أماتيراسو-أومي-كامي، وقد رُزقت من زوجها  بثلاثة أبناء، هم : هوديري-نو-ميكوتو (المعروف أيضًا باسم أوميساتشيهيكو، أو أمير بركات البحر)، وهوسوسيري-نو-ميكوتو، وهوري-نو-ميكوتو (المعروف أيضًا باسم ياماساتشيهيكو، أو أمير بركات الجبال).

في الذاكرة الشعبية اليابانية، كانت كونوهاناساكويا تُبجل كإلهة الربيع وسهولة الولادة، وتُجسّد قوة الأزهار المُحيية والتجدد. في هذه اللوحة، تُصوّر جالسةً برشاقة في حقلٍ يزخر بنباتات الربيع - أزهار الكرز، والهندباء، والسراخس، وذيل الحصان - مرتدية ثيابًا بيضاء زاهية، بينما تُمثّل أوراق العنب المُنسدلة على شعرها رمزًا للخصوبة، مُؤكدةً بذلك دورها الإلهي كمُولّدةٍ للحياة والوفرة الطبيعية.




Comments

Post a Comment