شهرزاد تعود إلى الشرق


The Arabian Nights by Anton Pieck




تعرفت منذ شهر بالصدفة البحتة على حساب تيك توكر أمريكية، ما كنت أنا وكثير غيري لنعرفه، لولا أنها قررت فجأة تصوير سلسلة بعنوان: (How long does it actually takes = كم الوقت الذي سيستغرقه فعلًا هذا الأمر)، وهذه السلسلة من المقاطع ببساطة تصور كريستي، التيك توكر، وهي تقوم بأشياء كانت تؤجلها لوقتٍ طويل، مثل تنظيف مرآبها، أو تعليق صور زواجها على الحائط، أو ترتيب خزانة ملابسها، أو الذهاب لموعد طبيب الأسنان، في نهاية المقطع تذكر بدقة الوقت الذي استغرقها لإنجاز ما ألقته في طويلًا سلة التسويف.

أُعاني منذ عامين من التسويف، الذي أصبح غولًا يأكل وقتي السعيد وطاقتي المبتهجة وأفكاري الرائعة ومشاريعي الواعدة، وربما أسبابي كلها تتلخص في المزاجية التي يُسببها تعدد المشاريع وشعوري بالضغط وضيق الوقت، نعم أنا أرغب في فعل كل شيء، وفي نوال كل شيء، وفي بلاغ كل شيء في نفس اللحظة.

كريستي ألهمتني ترتيب ممرات غرفتي من الكتب التي اشتريتها من معرض القاهرة الدولي للكتاب في يناير الماضي، نعم حتى الأسبوع الماضي كنت أتقافز على وحول وأمام وخلف صفين كبيرين من الكتب أمام مكتبتي، ونعم كنت أجلس بزاوية جانبية على مكتبي لأن هناك المزيد من الكتب الجديدة التي تشغل الحيز الذي يُفترض أن يكون موضع قدمي وأنا جالسة إلى المكتب، ونعم هذا الوضع استمر لخمسة أشهر كاملة، ونعم لن ألومني لو جعلته سببًا إضافيًا لمزاجيتي= تسويفي، ونعم لن تُرتب الكتب نفسها لو لم أفعل أنا. فتأمل عزيزي المسوف.

تذكر تدوينة تتحدث عن التسويف وكيف تعامل معه كبار الكُتّاب، أن فيكتور هوجو مثلًا لم يكن ليُنجز رائعته أحدب نوتردام لو لم يُرغم نفسه على الإقامة الجبرية في بيته، مرتديًا شالًا رماديًا طويلًا ومحبوكًا عليه، وأتخيل أن إبقاء نفسه في هذا الحيز الصغير كان مُساعدًا له على الإنجاز؛ يعني في النهاية هو محبوس في شال رمادي محبوك عليه، ويجلس في بيته منعزلًا وحيدًا فردًا، ولا يملك أي شيء يفعله إلا الكتابة، وهذا الحبس تذكير له بأن لديه ما يُنجزه، وقد كان.

أما فرانز كافكا هو الآخر كان مشهورًا بالتسويف والمزاجية، وكان يرى استرساله في الكتابة نوعًا من (ساعة الحظ)، وليقاوم كسله هذا كان ينام ساعات طويلة بدرجة يتحسن معها مزاجه، ثم يندفع في الكتابة، ولا يهتم بعدها بعدد ساعات نومه؛ يعني ببساطة لو تحمس للكتابة لا يهمه الخلود للذيذ الرقاد؛ لأن ما يجده من لذة في الكتابة تقيه تقلب مزاجه، حتى إذا فترت مشاعره لجأ إلى النوم كي يُصلح له كل شيء، أما هاروكي فسره معروف لدى العديد من القُراء والمثقفين والكتاب، الجري أو السباحة لمسافات طويلة، حتى يصل للإنهاك الذي يُدخله لحالة نفسية وذهنية أعمق تُمكنه من الكتابة، وأعتقد أنني أفهمه؛ لأنني أحيانًا أشعر بطاقة زائدة ومُربكة في خضم عملي من كثرة تدافع الأفكار، وأصبحت بالوقت أتعامل معها بكتابتها في دفتر مخصوص للأفكار الطارئة والفرعية والمتشعبة التي تنمو كغصون تتفرع منها وريقات في شجرة خضراء ضخمة في غابة الأمازون، قبل أن أخرج للتمشية كي تترتب أفكاري.

كتبت في ثمانية قبل عامين تدوينة أتفاخر فيها بالتزامي بالموعد النهائي لتسليم عملي، واليوم أنظر إليها وأنا أضحك وأقول: من هذه؟ لكني سعيدة بالمرأة/ الكاتبة التي أصبحت عليها، ولي طرقي الخاصة للتغلب على التسويف والمماطلة، أهمها على الإطلاق: العمل من مقهى المكتبة، أو المشي لتوليد وترتيب الأفكار ثم العودة بحماس وعقل هادئ للعمل. 



Arabian Nights George Soper


هل تعود شهرزاد إلى الشرق؟

 

في عام 2020 کانت قراءتي الأولى لأحلام شهرزاد لطه حسين، وبعيدًا عن حبي لفكرة وجود أعمال أدبية استوحت نفسها من ألف ليلة وليلة وشهرزاد، أو حاولت مد الليالي ومد الحكاية، أو تصور ما بعد انتهاء الليالي الألف وليلة، أو شعوري بالاستسلام اللذيذ أمام الفتنة التامة للغة طه حسين في هذه الرواية بالذات، كانت الرسوم التي مررت نفسها في أحلام شهرزاد رائعة ومثيرة للتأمل، وتمنيت لو أنها جاءت ملونة، ولو أن اسم الفنان معروف (في النسخة البي دي إف التي أحوزها اسمه غير مكتوب في صفحات بيانات الكتاب الداخلية مع الأسف).

 



إحدى اللوحات المنثورة داخل رواية أحلام شهرزاد


تذكرت هذه الرسوم البارحة، عندما كنت أقرأ ألف ليلة وليلة في جزئها الرابع بطبعة الدار المصرية اللبنانية، وبينما أُعيد هذا الجزء إلى غلافه الورقي الذي يجمعه مع الأجزاء الثلاثة الأولى تساءلت عن لوحات الأغلفة، وعندما نظرت إلى الغلاف الخلفي للجزء الرابع وجدت اسم الفنانة الروسية أولجا دوجينا.



 

ويبدو أن الغرب هم أول من فكر في رسم الليالي، لتبدأ هذه الرحلة بشكل فعلي مع الترجمة الفرنسية لأنطوان جالان في أوائل القرن الثامن عشر، والتي لم تكن ترجمة كلها حرفية لليالي، بل إعادة صياغة وإضافة حكايات وحذف أجزاء لتناسب الذوق الأوروبي آنذاك؛ إذ أضاف جالان قصصًا لم تكن موجودة في المخطوطات العربية الأصلية لليالي، مثل قصة "علاء الدين والمصباح السحري" و"علي بابا والأربعون حرامي"، والتي أصبحت فيما بعد من أشهر حكايات "ألف ليلة وليلة" في الغرب، وحذف بعض الأجزاء التي كانت تتحدث عن الجنس في الليالي، لان المجتمع الأوروبي آنذاك كان يتحفظ على خياله الإيروتيكي أو إشاعته على الملأ.

 المهم أن صاحبنا جالان تحمس بالفعل في السنوات ما بين 1704- 1717م، وترجم هذه الحكايات وإضافها لليالي العربية، ولأن المخيال الأوروبي كان متعطشًا لسبر أغوار أممًا بعيدة وغريبة تمر بها قوافل التجارة ويتعطر نسيمها بالبخور وتتضوع من أطباقها رائحة التوابل، فقد انتشرت الليالي في أوروبا في الفترة ما بين 1714- 1730م، لكن النسخة المثيرة للانتباه بالنسبة لنا -لو أننا نبحث عن بداية خيط لرسوم الليالي في أوروبا والعالم- كانت نسخة طُبعت في مجلد مكون من 12 جزء في لاهاي، وذلك لأن أغلفة الأجزاء ال12 من المجلد جاءت تحمل لوحات مختلفة، رسمها فنان هولندي يُدعى ديفيد كوستر، وطبعًا صديقنا كوستر لم يعرف أي شيء عن الموطن الأصلي لليالي، ولا يعرف أي شيء عن الحضارة الإسلامية، لذلك جاءت لوحاته بطابع أوروبي قح؛ بدءًا من الملابس والأثاث والتسريحات، وصولًا للجني الذي كانت الليالي تصوره ضخمًا بخلقة غريبة، والذي صوره كوستر على أنه رجل كبير بعض الشيء ومهلهل الثياب، وأعتقد أن الأمر طبيعي، فبنظرة واحدة للوحات وأدبيات الأوروبيين وحتى الميثولوجيا الإغريقية ستجعلنا نوقن أن نظرة الغرب إلى الجن مختلفة؛ فالجنيات في التصور الأوروبي عادة ما كن صغار الحجم جدًا، وغالبًا ما كانت هذه الكائنات تتدخل بنعومة لتحرك الأحداث تجاه الخير، أو حتى تجاه هوى نفسها- إذ صُورت أحيانًا بأنها ذات طبيعة مزدوجة؛ شريرة ومرحة تمامًا كأهل برج الجوزاء 😁، أي أن هذه الكائنات تحمل المعنيين معًا: الخير والشر وهذا يفسر استظرافهم لوجودها عمومًا وعدم القلق الحقيقي من ظهورها ضمن الأحداث، فكانت مُحببة بحريتها في الحركة: إذ صورتها معظم الحكايات الشعبية على أنها تطير وتعيش في الغابات بين الورود والأشجار وبالقرب أو بداخل الينابيع، بل حتى الحوريات في الميثولوجيا الإغريقية جئن بحجم البشر العاديين، بعكس الجن والمردة في ثقافتنا الشرقية، والتي عادة ما كانت محبوسة في قمقم، وكان مجرد خروجها يُنذر بالتهديد والوعيد. وطبعًا الجن والجنيات تختلف عن الأقزام وعن التايتانز الضخمة وعن وحوش البحر المستذئبين وعن شخصية ثور وأودن والآلهة الأوليمبية، وبقية قائمة الكائنات الغرائبية الأوروبية.

 

نعود إلى رسوم الليالي، وقد استمرت الغرابة لفترة طويلة تتسيد الموقف في لوحات الأوروبيين عن ألف ليلة وليلة، حتى جاء سير إدوارد ويليام لين، الذي عاش في مصر، وترجم الليالي عن العربية، وترجمها بغرض، بحسب مقالة قديمة في الجارديان، أن تكون نوعًا من (المدخل أو المكمل) لحياة المصريين وأهل الشرق في كتابه عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم، ولذلك حذف لين بعض الأجزاء من الليالي -نقحها أخلاقيًا ببساطة كما فعلت الدار المصرية اللبنانية 😁- واستخدم في ترجمته لغة رصينة، وألحق بحواشيه نوع من الرسوم التوضيحية، لا لشيء إلا لتثقيف وتعريف القارئ البريطاني بالشكل الحقيقي والأصيل للعالم العربي، لم يكن لين على أي حال ينوي إثارة الخيال الأوروبي وإلهاب مشاعر الاستشراق بين عموم الأوروبيين؛ العاديين منهم أو طبقة النبلاء والمثقفين، لكنه بدون قصد فعل؛ وربما الصدى الأهم لتدخلات وتعديلات لين كانت نسخة الليالي المصورة لدالزيل التي صدرت عام 1865م، ويُقال إن العديد من مشاهير الفنانين اشتركوا في تنفيذ رسومها، لكن الرسوم الأجمل بينها كانت لفنان شاب مغمور يُدعى آرثر بويد هوتون، الذي برع في تصوير لوحات شرقية، جاءت بنكهة هندية واضحة.

 

وعلى النقيض من لين، فعل ريتشارد بيرتون.

ففي الفترة بين 1885- 1888م أصدر بيرتون ترجمته لليالي في 16 مجلدًا، لكنها جاءت بدون إضافة رسوم، ربما السبب كان، بحسب مقالة الجارديان نفسها، أن بيرتون حاول بهذا التخفيف من حدة الأيروتيكية التي كانت تفوح من نصوصه المكتوبة، والهرب من الملاحقات القضائية والأخلاقية التي قد تتهمه بالفحش إن هو تمادى ورسم المشاهد التي سبق وحذفها لين (لعدم مناسبتها للأخلاق المثالية الأوروبية حينئذ) وفي الواقع، قدمت ليالي بيرتون بانوراما لحياة شرقية تضمنت ملاحظات أنثروبولوجية غريبة عن ممارسات جنسية غريبة على حد قول الباحثة كولييت كوليجان، ويمكن القول ببساطة وبمنتهى الأريحية أن نسخة ليالي بيرتون كان إباحية، والظريف أن الكاتبة السورية ديما الشكر انتبهت لميول بيرتون الإيروتيكية تلك، واتخذتها محور بنت عليه أحداث روايتها الأكثر من رائعة "أين اسمي" والتي كانت أحد أهم ترشيحات القائمة الطويلة للبوكر العربية في عام 2022، وفي رأيي كانت تستحق أن تنال البوكر في هذه السنة.

 

 لكن نقطة التحول الحقيقية في رسوم الليالي جاءت بعد وفاة بيرتون، إذ صدرت نسخة لترجمته لليالي مصحوبة بحوالي 70 لوحة، يُعتقد أنها بالفعل شكلت الأساس للرسوم التوضيحية لنسخ ألف ليلة وليلة المرسومة اللاحقة، هذه النسخة أنتجها فنان شباب بريطاني يدعى ألبرت ليتشفورد، وكان ليتشفورد هذا يُكن نوعًا من الإعجاب لبيرتون، بل وكان يشارك بيرتون ذوقه في الإيروتيكية، لذا كثرت صور العراة في رسومه التوضيحية، وعلاوة على ذلك، كان لدى ليتشفورد خيال غرائبي بعض الشيء؛ فجاءت رسوم بعض شياطينه ومعابده غريبة جدًا وغير تقليدية بالفعل، لكن السمة الهندية أيضًا تتجلى فيها عن العناصر الشرقية الأخرى، ويبدو أن ليتشفورد هذا كان مثالًا حيًا للفنان الموهوب المتشكك أو غير العارف بقدر ذاته برغم موهبته؛ فيُقال إنه كان خجولًا وغير متمكن من الأعمال التجارية، وبالتالي كان أجره زهيدًا في الغالب. وبينما كان لا يزال شابًا، أصيب بمرض في مصر ثم توفي بسببه لاحقًا في إنجلترا.

 

 

 

 

واحدة من لوحات ليتشفورد التي صورت مشاهد من الليالي



 

ثم جاء القرن العشرون، وحلّت التأثيرات والألوان الفارسية محل تلك الهندية في رسوم ألف ليلة وليلة، عندما رسم الفرنسي إدموند دولاك رسوم ألف ليلة الأشهر، والتي لا تزال متداولة إلى اليوم، فرسم في البداية "قصص من ألف ليلة وليلة" عام 1907، وحقق نجاحًا كبيرًا، وتلاه "الأميرة بدور" 1913، ثم "السندباد البحري وحكايات أخرى من ألف ليلة وليلة" 1914. وعلى الرغم من أن دولاك قلد الألوان الزاهية للمنمنمات الفارسية، إلا أن رسومه لليالي تضمنت أيضًا تقنيات وزخارف مستوحاة من المطبوعات اليابانية واللوحات الصينية، وبالنظر إلى لوحات دولاك، سنجد أن نساءه جميلات جدًا، ووحوشه قبيحة جدًا (خلفية حاسوبي إحدى رسوم دولاك لألف ليلة وليلة).

 

 

شهرزاد كما تصورها إدموند دولاك


لم تتوقف محاولات تصوير الليالي عند دولاك، لكن حاول غيره ومن بعده فنانون آخرون مثل كاي نيلسن، ويوليوس ديتمولد، وإريك فريزر، وإيرول لو كاين، وفي الواقع، لقد طوروا كثيرًا في تصوير الليالي؛ إذ لم يعد الجن مجرد رجال كبار بوجوه عابسة وسيوف، أما الوحوش الخرافية، فقد كانت تطير عبر مناظر طبيعية غريبة، وعكست رسومهم في الواقع ميل إلى البُعد عن الإثنوجرافية والالتزام بالصورة المستوحاة من الشرق لليالي، عوضًا عن ذلك استلهم بعضهم مثل نيلسن ولو كاين من علم الشياطين Demonology وبشكل عام، من أيقونات آسيا بأكملها؛ فيمكن للوحة الواحدة أن تجمع بين غيوم صينية، وهالات بوذية، ونيران ذات أبعاد منظمة ومنمقة، وجن أزرق، وألوان متوهجة.

 وبينما ترى العين الأوروبية أن هذا التطور في رسوم الليالي جعلها أقرب للخيال القابل للتصور، أتخيل أن هذه الرسوم، على جمالها وغرابتها، استكملت حالة مسخ وابتذال الليالي، تلك الحالة التي بدأها الأوروبيون عندما بدؤوا في التعامل مع ألف ليلة وليلة؛ مرة بإضافة قصص خارج الليالي لليالي كما فعل جالان، ومرة بالحذف منها كما فعل لين، ومرة بالتركيز على جانبها الإيروتيكي كما فعل بيرتون، فعلى حد تعبير كوليت كوليجان، كانت ترجمة السير ريتشارد بيرتون لليالي إنتاجًا إبداعيًا يكشف المزيد عن انشغالات الإنجليزية الجنسية أكثر مما يكشف عن الجنسانية العربية، على الرغم من ادعاءاته بالعلم والمساواة الدلالية، وهذا في مُخيلتي يشير إلى الاتجاه الاستشراقي الذي أدى دورًا مهمًا في نشر الخطاب حول الشرق الخالد والساحر الذي لا مجال فيه لتطبيق القواعد المتحضرة ببساطة. وإلى حد ما، برر هذا الاتجاه الاستشراقي السائد بين الأوروبيين التوسع الاستعماري الأوروبي: السيد الأبيض المُتحضر المتحكم في غرائزه أمام بربرية العرب.

ثم مسخ الغربيون الليالي مجددا بقتل شهرزاد في تصور ما بعد انتهاء الحكايات مثلما فعل إدجار آلان بو، ومرة أخرى مسخوها عندما صبغوا الشرق بلون حالم وأطروه  بداخل غلالة وردية ناعمة ورومانسية؛ إذ رسم الغربيون من خلال الليالي شرقًا فخمًا وغنيًا، وحياة الناس فيه عبارة عن حكاية تتأرجح بين المغامرة والأحلام، ما جعل صورته بين عموم الغربيين مشوشة، وكأنه جنة غير واقعية وغرائبية يمكن للإنسان أن يفعل فيها ما يشاء دون رقيب أو مخاوف، فجاء الشرق في الليالي مُجتزءًا  وممسوخًا عن حقيقته التي حملت الجانبين؛ الحالم والواقعي الذي تقاطع فيه العلم والتاريخ مع الزمن.

تحدثت فاطمة المرنيسي عن هذه الحقيقة في كتابها شهرزاد ترحل إلى الغرب، الذي فككت عبر فصوله النظرة الاستشراقية للشرق، عندما اثارت انتباهها واستغرابها أيضًا ابتسامات الصحافيين الغربيين عند لفظ كلمة (حريم)، لتبدأ على إثر هذا الاستغراب رحلة بين برلين وباريس تُفكك فيها سر الابتسامة البلهاء التي تعتري وجوه الصحافيين الغربيين عند ذكر كلمة حريم، ولتصل في النهاية أن النظرة الاستشراقية حجبت الواقع والتاريخ تمامًا عنهم، حتى مع تقدم التكنولوجيا وتطور الاتصالات والعلوم ووسائل السفر.

ولا أنسى الصفحة الأولى من مقدمة كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد، عندما كان يتحدث عن الصحافي الفرنسي الذي زار بيروت وقت الحرب الأهلية، وحزن على دمارها، وعلى ضياع صورتها التي يعرفها من خلال وصف الشاعر الفرنسي شاتوبريان والأديب الفرنسي جيرار دي نيرفال في بداية القرن التاسع عشر، وقد صُورت كمدينة للحب؛ أي تم اختزال بيروت بثقافتها وتاريخها وأهلها في صورة استشراقية ظالمة!

ويمكنني الاتحاد مع رأي مدونة أجنبية (غالبًا بوسنية) قرأت تدوينتها قبل أشهر، وكانت تتحدث عن الليالي كما نعرفها اليوم، على أنها نتاج استشراقي لخطابات الهيمنة القديمة بين الشرق والغرب.

ولاستدرك، حكايات الليالي تم جمعها وتدوينها وحفظها شفاهيًا من الرواة العرب بشكلٍ ما قبل أن يتخيل الأوروبيون حتى وجودها، لكنها بشكلٍ ما فُقدت، ومن خلال التدوينات والرواية الشفاهية تلك استطاع جالان نقل ألف ليلة وليلة إلى أوروبا، الحكايات صحيحة، وحتى الدخيل على ألف ليلة وليلة مثل حكاية السندباد وعلي بابا هي في الأصل حكايات مشرقية كانت متداولة في بلداننا، لكن الغرب أظهروا في كل مرة التفاصيل التي تعنيهم، مرة بالحذف ومرة بالإمعان في الإيروتيكية دون النظر إلى جمالية الحكاية كوحدة كاملة، لذلك لا أستطيع إيقاف شعوري بأن الغرب استعمرنا فعلًا عندما ترجم ألف ليلة وليلة، فأخرس صوتنا ومسخ صورتنا وحوّر حكايتنا وفقًا لخياله أو فضيلته أو حتى غرائزه التي لم يكن قادرًا في هذا الزمان على الإفصاح عنها، ثم أمعن في استعمارنا عندما رسمها كما يتخيل خياله وبأدواته الثقافية المحلية وتصوراته المحدودة عن مدننا العربية، ثم أملى تصوراته تلك على العالم، بما فيه نحن أهل الحكاية الأصليين، فاليوم نحن نُترجم ألف ليلة وليلة عن الأوروبيين! (ازاي ألف ليلة وليلة العربية السابقة للترجمات الأوروبية لم تُدون، وإن دونت كيف لم تُحفظ! هذا سؤال يطرح نفسه بقوة: أين ذهبت مخطوطات الليالي العربية التي دونّها العرب قبل جالان، ونقل عنها جالان نفسه؟)

 

التساؤل الذي دفعني لكتابة هذه التدوينة/ المقالة الطويلة جدًا كان يراودني منذ أكثر من عشر سنوات، تحديدًا منذ عام 2016، عندما كنت أُمارس هوايتي/ عادتي في تصفح رفوف الفلكلور في طابق (B2) في مكتبة الإسكندرية، أو رفوف طابق الأدب في طابق (E)، وقتها كنت أشعر أنني محظوظة عندما أجد غلافًا لم أره من قبل لألف ليلة وليلة، بينما أتصفح الطبعات الأجنبية لليالي بأغلفتها الجذابة والرسوم التي تتناثر داخلها، وبلا وعي كنت أُقارن بينها وبين الطبعات العربية التي لا تحتوي على رسوم ولا حتى في الأغلفة، اللهم إلا الطبعة المتاحة بي دي أف في موقع مكتبة نور ومع الأسف ترتيب صفحاتها يُعاني عطبًا جعلني أحتفظ بها دون العودة إلى قراءتها مرة أخرى، والطبعة الخاصة بدار مسافات والتي اعتمدت في لوحاتها الداخلية على اللوحات الأوروبية لألف ليلة وليلة. سؤالي القديم هو: كم فاتنا كعرب وكشرقيين بعدم الاهتمام كما ينبغي بألف ليلة وليلة؛ بتنقيحها من الشوائب الاستشراقية، والاهتمام بتصويرها بصريًا بما يتناسب مع حقيقتها.

 

في الواقع، بحثت قبل أن أكتب هذه التدوينة عن الرسوم العربية لألف ليلة وليلة، لم أجد شيئًا حقيقيًا مع الأسف، لكني وجدت تصويرًا فارسيًا  لهارون الرشيد، كواحد من شخصيات الليالي البغدادية، وهذا التصوير يعود إلى القرن السادس عشر، بجانب مخطوطة إيرانية لألف ليلة وليلة، وبها لوحات تصور مشاهد من الحكايات تعود إلى العصر القاجاري، صمّمها الرسام ورسام المنمنمات الإيراني ساني الملك وتلاميذه خلال خمسينيات القرن التاسع عشر، وكانت محفوظة في أرشيف قصر گلستان، ولم أتفاجئ لأن التدوين بالرسم عادة فارسية، ويبدو أن الفرس اهتموا بالفعل برسم ألف ليلة وليلة، وتمنيت لو كان لدى العرب، الذين برعوا أصلًا في الرسم، وكانت كتبهم كأغلفة وكرسوم إيضاحية داخلية مثار عجب وإعجاب، ولا تزال، وعيًا كافيًا لرسم لوحات لألف ليلة وليلة، وفرضها على العالم.

 

  

مشهد من ألف ليلة وليلة القاجارية

يصف الغرب في العادة الليالي على أنها أم الروايات ومصنع أحلام الكتاب وباعث الحكي في النفس الإنسانية، وأتذكر مقولة لماركيز عن الليالي، يقول فيها: "مع "ألف ليلة وليلة"، تعلمت، ولم أنسَ أبدًا، أنه ينبغي علينا أن نقرأ فقط الكتب التي تجبرنا على إعادة قراءتها."، الليالي كتاب ممتد بعمر من يقرأه، يعيده ويستزيد منه، وفي كل إعادة قراءة يكتشف حكاية مستترة بين السطور، أو تفصيلة صغيرة تُغير نظرته تمامًا للشخوص وللحكاية ولشهرزاد وشهريار، أو يجد نفسه، وقد ارتدى زمنًا بعيدًا، ويتجول من خلاله في مدينته لو كان يسكن بغداد أو القاهرة أو دمشق أو حتى الإسكندرية، ألف ليلة وليلة حكاية ممتدة وخالدة، لكنها سُرقت منّا، لكن من ناحية أخرى كانت هناك محاولات عربية لسرد الليالي، فأنا ما زلت أسمع لمسلسل ألف ليلة وليلة الإذاعي المصري حتى أنام، ثم أن مسلسل جودر المُنتج حديثًا كان مستوحى من النسخة المصرية بطبعة المصرية اللبنانية، والجميل أنه جاء بمؤثرات بصرية رائعة، وبموسيقى المقدمة والنهاية الملحنتين بذكاء؛ عندما جاءت افتتاحيتهما بموسيقى شهرزاد لريمسكي كورساكوف، ثم تحولت لموسيقى وكأنها وجهة نظر مصرية حديثة في ألف ليلة وليلة.

كنت أتمنى لو رسم حلمي التوني ألف ليلة وليلة قبل رحيله. وكم أتمنى لو أراها قريبًا في صورة كوميكس، أو أن أرى حتى رسومًا عربية لليالي العربية.

نشرت هذه التدوينة للمرة الأولى في 24 يونيو 2025، وتشاء الأقدار أن تقرأها الصديقة رسمية الأحمدي، لتقول أنها تملك بالفعل نسخة مصرية من الليالي بطبعة كتاب الشعب، مرسومة بلوحات حسين بيكار شخصيًا، ولأول مرة في حياتي يغلبني شخص في البحث، لكني السعيد جدًا بانهزامي، وإن كان السؤال لا يزال يقرع وبشدة على أبواب عقلي: لماذا حتى الآن لا تزال اللوحات الأجنبية تتصدر المشهد عند الحديث عن الليالي، دون الإشارة للوحات بيكار، وهو الفنان المشهور والمُقدر فعلًا!

تحدثت مع الأستاذ إيهاب الملاح، وسألته عن طبعة كتاب الشعب وإن كان يمكنه الاتصال بدار النشر/ الشقيقة لدار المعارف المسؤول هو عن النشر فيها، ووعدني بأنه سيبذل قصارى جهدة لعودة ألف ليلة وليلة نسخة كتاب الشعب برسوم بيكار من جديد للجمهور، على أرفف معارض الكتاب ومراكز التوزيع الحكومية. 

هل أنا سعيدة؟ نعم، وعندي أمل.




عندما تجلّت الست على الهرم الأكبر. ديسمبر 31. 1999.


نُزهة 

لن أتحدث عن اللوحات هذه المرة، لكن سأُمرر حفل موسيقي.

 استقبلت مصر الألفية الثانية بحفل موسيقي مهيب وغريب وعجيب أُقيم أمام أهرامات الجيزة، وأتذكر أنه في 31 ديسمبر عام 1999، كان جان ميشيل جار يُقدم أحلام الشمس الاثني عشر، بينما كنت أستعد لاختبار العلوم للصف الخامس الابتدائي، كان الحفل يُذاع تليفزيونيًا بينما تُراجع لي أمي منهاج العلوم وتسألني أسئلة اختبارات السنوات السابقة. أتذكر أنني كنت أُغافل والدتي أو استعجلها كي أُشاهد الحفل، الذي لم يشدني فيه في البداية إلا ابن آوى المُضيء والمتحرك والراقص والماشي على لوحات يُحركها أشخاص، ووجه المرأة التي تُعلن عن أحلام الشمس، حلمًا تلو الآخر، وصورة أم كلثوم التي انعكست على الهرم الأكبر بينما يستمع جار إلى صوت آمال ماهر في ظهورها الأول وهي تغني شمس الأصيل لأم كلثوم، لكن أجمل ما شدني ولا يزال تأثيره يمارس نفسه علي هو جان ميشيل جار نفسه بابتسامته الوديعة المتحمسة وعيونه الذكية وشعره الكثيف والشال الذي كان يلفه على رقبته، وقد بدا لي بهيئته تلك في عمري الذي لم يتجاوز العشر سنوات شديد الشبه بشامبليون الذي فك رموز حجر رشيد، والذي كان واحدًا من (الكراشز) السريين الذين كنت أحتفظ بصورهم مقصوصة من الجرائد والمجلات، مع الإسكندر الأكبر وبراد بيت.

 بقيت موسيقى الافتتاحية، والتي تحمل اسم (أجراس) ترن فعليًا في أذني، بتناغم الصوت الناعم الأشبه بالدبيب الخفيف للدفوف مع صوت الدرامز القوي والجرس والبيانو بنغمة الجرس والرجال الذين ارتدوا جلابيب صعيدية بيضاء، وأمسكوا بأياديهم لمبات (سبوت لايتس) دائرية كبيرة واصطفوا بها على طول صحراء الجيزة حول الهرم، ثم قررت البحث عن أحلام الشمس وقصتها، لأجد شذرات تتحدث عن أحلام تخيلها جار، وهذه الأحلام مستوحاة من رحلة الشمس/ إله الشمس رع، في السماء منذ الغروب وحتى شروق اليوم التالي، وفي هذه الرحلة يركب رع سفينته الكبيرة ويُحارب الشرور ويُقاسي الأهوال في السماء كي يحمي البشر والأرض، وشروقه من جديد كان يُعد انتصارًا ونجاة وبقاء جديد يُكتب له، وبينما يعبر العالم السفلي (الليل) ويُحارب وحوشه وظلامه، كانت تتكون لديه هذه الأحلام، طبعًا خيال جار مُلهم ولو أنني كاتبة رواية كنت لأبني رواية كاملة على أحلام رع ورحلته اليومية الأبدية في السماء.

ثم على حين غفلة مني كبرت، ونوعًا ما طالت نظرتي التحليلية كل شيء أحببته، لم ينتقص التحليل من حبي للحفل ولا من ذكرياتي الرائعة المرتبطة به، لكني منذ عامين وأنا أشعر بحيرة أمام مدى (استشراقية) هذا الحفل؛ يعني لماذا فنان فرنسي ومصر وقتها كانت لا تزال في أوج نشاطها وتأثيرها الثقافي، وكان فاروق حسني، وزير الثقافة الأفضل بعد ثروت عكاشة، كان لا يزال في منصبه، وفاروق حسني -الفنان والمثقف والمتمسك جدًا بالهوية المصرية- لماذا يختار فنان فرنسي لاستقبال الألفية الثانية بعد الميلاد، وربما توزاي هذه الألفية ألفيتنا السابعة أو الخامسة كدولة مصرية متكاملة الأركان بتاريخ مكتوب، كنت مشوشة جدًا حيال هذا الحفل رغم استمتاعي به، وبغرائبية تداخل الهوية والصوت واللغة واللكنة والآلات الموسيقية المصرية مع موسيقى جار، إلى أن قرأت أن اليونسكو اقترحت على جار إقامة هذا الحفل لمساعدة مصر لاستعادة صورتها البهية المضيافة، والتي تضررت من هجمة إرهابية على السياح في الدير البحري بالأقصر في عام 1997، ثم جاءني خاطر البارحة بينما كنت أسمع الحفل وأعمل على بحثي، أن هذا الحفل يمثل استشراقًا عكسيًا؛ هو من ناحية يعكس حالة الهوس الأوروبي بمصر، والمستمرة منذ فك حجر رشيد، والتي ستبقى مستمرة باستمرار غموض حضارتنا، ومن ناحية أخرى هو يُدحضها بحشر العنصر المصري والهوية المصرية في فقرات الحفل؛ أنا سعيد بهوسك بي، وأُشجعك عليه وأُشاركك فيه بطريقتي 😊

Comments