جوال على الوضع الصامت

 

Painting: Reclining beauty with her cat by Fritz Zuber-Buhler 
Edited by: Mehemt 
Geren
  


لا أعرف بالتحديد متى بدأت اعتماد الوضع الصامت كحالة أساسية لهاتفي النقال، ربما منذ سبع سنوات، لكني أعرف أنني كنت في حاجة للشعور التام بالصمت؛ أن تصمت كل الأصوات حولي، وأن أصمت معها تمامًا قدر استطاعتي، وأن أتعذر بأن هاتفي صامت كحجة لعدم ردي على المكالمات التي وإن كان منبعها الحب والاهتمام، إلا أن توقيتها كان غير مناسب، في السادسة والعشرون ورغم أنني كنت أعيش فعلًا على مدار سنوات وحيدة في البيت، إلا أنني شعرت برغبة أكبر في العزلة؛ حد أن تختفي الأصوات وأن يختفي صوتي وهو يتحدث بروتينية معها، في الواقع كنت أحتاج للإنصات الطويل لي، لتلك قابعة في داخلي ويشوش وجودها الناس والآراء والأصوات، أتذكر أن هاتفي على الوضع الصامت بشكلٍ مستمر منذ سبتمبر من عام 2015، ورغم علاقتي الجديدة تمامًا بالحياة والأصوات والناس وحبي العظيم للوجود الإنساني بكافة أشكاله الصاخبة وصولًا لتلك الناعمة الهادئة، إلا أن جوالي كان حتى البارحة لا يزال على الوضع الصامت.

لم تنجح أي نغمة في أي جوال اشتريته خلال تلك الفترة في اقناعي بالعودة إلى وضعية الرنين، ولا حتى سيمفونية شهرزاد الشهيرة لريميسكي كورسكوف، أو حتى أغنية سيمون التي احدثت ضجة في التسعينيات (بتكلم جد)، كنت أجد نفسي بعد ساعات أعود لوضع الهاتف على الصامت لأنني ببساطة لا استطيع التعود على أي صوت تنبيهي يصدر عن هاتفي، في الواقع كنت أشكر في سري اضاءة الـ LED في نسخ النوت من سامسوج، أو الفلاشر في أيفون ونسخ سامسوج الجالاكسي، وحتى عندما اضطررت في مطلع هذا العام بتبديل هاتفي على عجل لهاتف (مرتجل) اخترت جوالي الحالي لمجرد أنه مزود بخاصية Edge Lightning؛ التنبيه بإضاءة حواف الشاشة في مشهد يشبه أضواء الشفق القطبي بشكلٍ ما، في الواقع أضحك في نفسي من نفسي أنني اعتمدت على الاضاءة والألوان طوال تلك السنوات في الانتباه لهاتفي، لأني انزعج حتى من الاهتزاز.

هذا الصباح استيقظت لأول مرة منذ سنوات على صوت رسالة؛ لم أفزع تمامًا خاصةٍ وأنني أدركت أن من بدل الوضع الصامت ربما تكون ابنة أخي التي لم تتجاوز السبعة أشهر بينما كانت تمارس عادتها المفضلة باللعب في هاتفي، فريدة امضت برفقتي يوم الجمعة بالكامل حتى نومي في الثانية بعد منتصف الليل، وهي الإنسان الوحيد المسموح له بلمس جوالي، نعم؛ لا أحب أن يلمس أي إنسان هاتفي، الذي وإن كان لا يحوي أسرارًا إلا أنني ببساطة من جماعة Do Not Touch My Phone 😎.

عندما استفقت قررت البحث عن الأسباب النفسية التي تدفع الإنسان لإبقاء جواله على الوضع الصامت.
في الواقع لم أجد الكثير عن الأسباب،  لكني وجدت مقالات تتحدث عن نتائج الوضع الصامت؛ هناك دراسة تذكر أن الوضع الصامت للجوال قد يزيد من نسبة التوتر لدى المستخدمين ويزيد أيضًا من كثرة تفحصهم لجوالاتهم نتيجة الخوف من أن يفوتهم شيء، بل وأن كتم الجوال قد يكون مؤلم نفسيًا للكثير من البشر، وتنتهي الدراسة بأن العكس؛ السماح بالتنبيهات والاشعارات قد يحل جزء كبير من المشكلة، هنا أدركت أنني أقرأ عن حالة إدمان للجوال تدفع المستخدم لإسكاته كي ينتبه لحياته التي تحدث بالفعل، وتلك حالة قد لا أكون معنية تمامًا بها، وإن كنت قد قرأت عنها بالفعل من قبل إلا أنني لم أتخيل أن علاقة الإنسان بالجوال قد اتخذت هذا المنحى، وأن شعوره بالانتماء والتقدير والأهمية أصبح مرهونًا بهذا القدر المرعب بالإشعارات والتنبيهات.
لم استطع في النهاية إلا أن أشكر أسبابي التي جعلتني أضع جوالي على الصامت طوال تلك السنوات، وأن أشعر بالامتنان الشديد لنعمة أنني أشعر بالفعل بالراحة أثناء حضوري في حياتي التي تحدث، لا أُقلل من شأن مواقع التواصل الاجتماعي؛ جزء من عملي وتطوعي الأول في المكتبة مثلًا فرص جاءتني من خلاله، تعرفت على صديقات هن أقرب لي من صديقات تجمعني بهن المدينة والمدرسة والوطن، هن حاضرات في حياتي وأنا حاضرة في حياتهن بالقدر العادي الذي لا يعوق الاستمتاع بساعات طويلة بدون جوال دون أن يداهمني شعور الفوات أو انعدام القيمة أو قلة الثقة بالقدرة على التأثير في المحيط، ربما في النهاية إنسان اليوم أمام معضلة حقيقية؛ الفقاعة الذاتية الشريرة التي خلقها وسجن نفسه فيها.

جاءني اشعار من
Gmail، ما زال صوت التنبيهات غير مكتوم. ربما سأمتثل لقرار يد فريدة الصغيرة التي الغت صمت سبع سنوات بلمسة من أصبعها الرقيق، جوالي لن يعود صامتًا بعد الآن.



Comments